Al Jazirah NewsPaper Friday  10/07/2009 G Issue 13434
الجمعة 17 رجب 1430   العدد  13434

نوازع
أبو بحر التجيبي
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

 

الأدب الأندلسي عبق الرائحة، جميل المحيا، يحكي قصة قوم عاشوا هناك وبنوا صروح حضارة، ثم لم يروا من بأس في الركون للهو والراحة، وتغليب اللذة على العمل الجاد، فَزُحْزِحوا مما قطنوه وهدم جل ما بنوه، ولم يبق إلا شواهد قليلة تدعو الفطن اللبيب إلى الاعتبار إن رغب، والاستذكار إن أحب، ونفسي تواقة إلى تلك الحضارة، ميالة إلى مكمن النضارة، نزاعة إلى الاستذكار، مولعة بالاعتبار، فاعتبروا يا أولى الألباب.

وعجالتنا اليوم ليست للاعتبار وإنما شوارد تجمعت فأتت أكلها، فذكرني الحديث عن مراكش بكتاب (المعجب) لعبد الواحد المراكشي، وكتاب (الذيل والتكملة) لأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الملك بن محمد بن سعيد الأنصاري الأوسي المراكشي، وجرني الحديث عن كتاب (الذيل والتكملة) إلى تذكر كلمتين أذكر أنني قرأتهما فيه وهي (النونة) و(الفحصة) وأخذت أقلب الكتاب، منصرفاً عن البحث عبر الحاسب الآلي حتى لا أعول عليه لتسهيل الحصول على المراد دون عناء فيكثر ما في القرطاس، ويقل ما في الرأس.

أجبرتني (النونة والفحصة) أن أقرأ في (الذيل والتكملة) قراءة سريعة نحو من خمسمائة ورقة حتى سقطت عيني عليهما فوجدت أن المراكشي أوردهما عند حديثه عن العبّادية، وهي جارية المعتضد عباد بن محمد أهداها إليه مجاهد العامري، وقد أجادت في التعريف بتلك الهزمة التي تظهر في أذقان بعض الأحداث، وتعتري بعضهم في الخدين عند الضحك، فأما التي في الذقن فهي (النونة) ومنه قول عثمان رضي الله عنه: (دَسِّموا نونته لتدفع العين) وأما التي في الخد عند الضحك فهي (الفحصة) فما كان في أشبيلية في ذلك الوقت من عرف منها واحدة قبل أن تعرف بها العبادية جارية المعتضد.

هذه العبادية الشاعرة الماهرة هي واحدة من شواعر الأندلس الكثيرات مثل تميمة بنت يوسف بن تاشفين وحواء بنت إبراهيم واختها زينب، والشلبية، وأم شريح بن محمد، ونظام الكاتبة، ومهجة بنت ابن عبدالرزاق، وفاطمة بنت عتيق ونزهون وغيرهن كثير.

ومن (النونة) و(الفحصة) أخذت في تذكر بيت شعر لأبي بحر التجيبي يذكر فيه (النونة) فلم تساعفني الذاكرة، فرجعت إلى ديوانه فإذا بالبيت المنسي يتربع في السطر الرابع من قصيدة رائعة له، والبيت يقول:

والخال ينقط في صفيحة خده

ما خط حبر الصدغ من نُّوناته

وأبو بحر التجيبي رائع في نثره كما هو في شعره وله رسالة كتبها إلى بعض أصحابه بعد أن عتب عليه المكتوب إليه لكلام بلغه عنه: فجاءت الرسالة مفندة لفعل النمامين الحاقدين ومنها:

(فمن عذيري من طائفة، بالتوريش طائفة، ذات أمارة، بالسوء أمارة، زخرفت بأمر يفتضي خرق المعتاد، وزحفت بمحال من دونه خرط القتاد، جذبتها من سوء النية أشطان، إلى أن يقول وهل هي إلا قالة وراءها العيب، وكتاب مِلؤُه شك وريب، ويا عجباً حتى كليب، ما شئت من عُوَيْرٍ وكُسير، وكلام ألسنة حداد أشحة على الخير، وأنا أقول لتلك الفئة وإن ارتفع في الزُّور منارها، وانطبع بسيما الإفك والتقول دينارها، سمنها في أديمها، ونجارها نارها، إنما هي آنية رشحت بما تحويه، وألسنة أعربت عما تجنه صدورها وتطويه).

ونكتفي بما أوردنا من هذه الرسالة النفيسة التي تحكي أحقاد أولئك الحساد الذين لا ترشح ألسنتها إلا بما تحويه أفئدتها كفانا الله وإياكم شر الأشرار، وأوسع لنا ولكم صدور الأخيار والأبرار، وجعلنا للخير وبالخير ساعين وعن ضده منصرفين.

وأبو بحر التجيبي ظريف طيب المعشر يمازح أصحابه وأخلاءه بشعره ونثره، وسأترك الشعر يتوارى خلف النثر، فقد وقعت حادثة نادرة لأحد أصحابه وكان يلقب بالكلبة، وأراد الله أن يخرج ذات يوم في السحر فعضه كلبان، فاستغل أبو البحر الحادثة فأرسل إليه رسالة ممازحاً ومداعباً ومنها:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهند

{وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (فاقتضوا من الصبر دينكم) (ولا تنسو الفضل بينكم) اصبر لذويك وإن ساء ما أقطعوك، وصل قرابتك وإن قطعوك، وأغض عنهم ولو أنهم ضاعفوا الطاء فقطّعوك، ومقابلة الجهل بالجهل من أخلاق الحُمُر وصلة الرحم تزيد العمر، فاحلم عنهم لعلهم يتعلمون وقل (اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ولابد من الصلح بالمعروف، والأقربون أولى بالمعروف، والرأي أن تترك المعاقبة وتدع، وتعلم أن (أنفك منك وإن كان أجدع، وقل لمن أنْدَرك منهم عضاً، يا بعض دع بعضاً وذكرهم النسب الملتحم، أنشدهم الله والرحم) ونكتفي بما أوردنا، ولو طاوعنا القلم لأسهبنا.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد