Al Jazirah NewsPaper Friday  10/07/2009 G Issue 13434
الجمعة 17 رجب 1430   العدد  13434
المِزاح والعلم
بيتر دير

 

من بين القصص غير الموثوق من مصدرها والتي نسمع بها أحياناً بين علماء الفيزياء أن زملاء جيه. جيه. تومسون شربوا معه نخب اكتشافه للإلكترون في عام 1897 قائلين: (نخب الإلكترون: عسى ألا يعود بالفائدة على أي إنسان).. ويحكي علماء الرياضة البحتة مزحة مماثلة عن مهنتهم.

ولكن لماذا يُعَد من الطريف أن نحتفل بعدم جدوى المعرفة؟.. لقد شهدت موقفاً مماثلاً من أحد علماء الكون عندما شاركت في برنامج إذاعي منذ عدة أعوام: فقد علَّق المضيف على بحثه واصفاً إياه بأنه يكاد يكون بلا أي تطبيق علمي فأجابه سريعاً: (أجل، وأنا فخور بذلك).

من الواضح أن جميع هذه النكات تعتمد على نفس الافتراض: ألا وهو أن الجميع يتصورون أن المعرفة، وبخاصة المعرفة العلمية، لا بد أن تكون مفيدة.. لذا فمن المضحك أن يتباهى أحد العلماء بأن مجال المعرفة الذي يتخصص فيه، سواء كان الفيزياء التجريبية أو علم الكون، لا نفع منه ولا جدوى.

ولكن هذا النوع من المزاح ما كان ليصبح مفهوماً، أو ذا مغزى لولا وجود افتراض آخر شائع في نفس الوقت بأن المعرفة العلمية لها قيمة مستقلة عن أي تطبيق أو استخدام عملي.. فلن يكون من المضحك بأي حال من الأحوال أن تحتفل جمعية خيرية تعمل في مجال إغاثة الناس في المجاعات بعدم نفعها أو فعاليتها؛ فالقيمة العملية في هذه الحالة سوف تفوق في الأهمية كل شيء آخر، ذلك لأنها سوف تُشكِّل السبب الحقيقي الوحيد الذي يبرر وجود العمل الخيري.

ربما لفت اينشتاين انتباه رئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت إلى إمكانية صُنع الأسلحة النووية، لكن أول ما نتذكره به اليوم هو أفكاره المتعمقة حول طبيعة الكون.. ولقد قدَّم كبراء العلم الأحدث عهداً من أمثال كارل ساجان وستيفن هوكنج صورة مماثلة للجماهير.. والعلم من هذا المنظور يدور حول الفلسفة الطبيعية، فهو عبارة عن مؤسسة تسعى إلى اكتساب فهم عميق للعالم بصرف النظر عن إمكانية الانتفاع بهذه المعرفة من عدمه.

لقد اخترع القرن التاسع عشر مصطلحي (العلوم البحتة) و(العلوم التطبيقية) كوسيلة للتوفيق بين أساليب الفهم البديلة.. والعلوم البحتة، كما يقترح المصطلح، تُقدم باعتبارها (الشيء الحقيقي) غير الملوث باعتبارات عملية والمتأصل في البحث التجريبي والنظري في الطبيعة.. أما العلوم التطبيقية فتتلقى المعرفة التي تقدمها العلوم البحتة وتخضعها للتطبيقات.

بَيْد أن هذه الصورة الصريحة المباشرة لا تشبه إلا من بعيد تلك التعقيدات المحيطة بالنشاط العلمي الحقيقي: إذا لم تشتمل العلوم التطبيقية على شيء غير تطبيق أو توظيف نتائج العلوم البحتة، فلن تكون هناك حاجة إلى أقسام (البحث والتطوير) في شركات التصنيع، أو المختبرات البحثية في شركات تصنيع المواد الكيميائية أو المعدات الإلكترونية.. وبهذا فإن المنجزات المنفعية للعلوم سوف تعتمد كلياً على الفتات المتساقطة عن موائد باحثي العلوم البحتة.

الحقيقة أن وجهي العلم متصلان ومتداخلان على نحو وثيق - فهما أقرب إلى كونهما عنصرين يؤلفان مزيجاً مخفوقاً من كونهما وجهين لعملة واحدة.. في أحد مؤلفاته يقول الفيلسوف ورجل الدولة الإنجليزي فرانسيس بيكون، الذي عاش في أوائل القرن السابع عشر: (إن الحقيقة والمنفعة هما نفس الشيء).. أو نستطيع أن نقول بعبارة أخرى إن صِدق معتقداتنا بشأن العالم الذي نعيش فيه لا يضمنه سوى قدرة هذه المعتقدات ذاتها على التحول إلى أفعال تفضي إلى النتائج العملية التي يرغب البشر في الوصول إليها.

إن ما نفهمه بوصفه الوجه المنفعي للعلوم كان في نظر بيكون مجرد وجه آخر للعملة العلمية.. حين قال الشاعر جون كيتس في إحدى قصائده (الجمال حقيقة، جمال الحقيقة)، فربما كان بوسعه أن يقول أيضاً: (المنفعة حقيقة، منفعة الحقيقة) - ما دمنا نرى (المنفعة) من منظور بالغ الاتساع.

بَيْد أننا لا نصدق بيكون أيضاً.. فنحن كمثل بيكون نُقدِّر المنفعة لأنها تبدو وكأنها تضفي المصداقية على زعم مفاده أن العلوم تُشكِّل طبيعة العالم - فالعلم حقيقي لأنه ناجح، لكننا في الوقت ذاته لا نسمح للعلم بالتدني إلى مرتبة المنفعة العملية، لأن هذا من شأنه أن يلحق أشد الضرر بحالته الفكرية، فضلاً عن الحالة الفكرية للعلماء أنفسهم، ومن شأنه أن يمنع العلم من تقديم التفسيرات لما يدور من حولنا.. وعلى هذا فلا بد أن يحتفظ العلم بزعمه بأنه يُشكِّل فلسفة طبيعية أيضاً.

في بعض الأحيان نعتقد أن العلم فلسفة طبيعية، وفي أحيان أخرى نعتقد أن العلم منفعة.. لكنه في الحقيقة فلسفة طبيعية ومنفعة في ذات الوقت، فهو ليس بحتاً وليس تطبيقياً.. وإذا سلَّمنا بذلك فلن نمزح بشأنه.

خاص «الجزيرة»



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد