Al Jazirah NewsPaper Saturday  18/07/2009 G Issue 13442
السبت 25 رجب 1430   العدد  13442
الغرب والحريات الدينية.. (الحجاب أنموذجاً)!
محمد بن عيسى الكنعان

 

التجربة التاريخية التي مرت بها الشعوب الغربية خلال العصور الوسطى المظلمة التي استغرقت قرابة عشرة قرون من التاريخ الأوروبي، بسبب استبداد الكنسية وهيمنتها على كل مجالات الحياة، من خلال احتكار الدين وفرض العقائد ومحاربة العلم ....

...وإصدار صكوك الغفران ودعم النظام الإقطاعي، هذه التجربة المريرة جعلت (الحرية الدينية) أكثر القضايا الاجتماعية ارتباطاً بحقوق الإنسان في واقع الحضارة الغربية وبين أنظمتها السياسية الحديثة، خاصةً بعد قيام الثورة الفرنسية عام 1789م، ونجاحها في تأسيس جمهورية علمانية تقوم فلسفتها على أسس وقيم ليس لها علاقة بالدين، حتى أن الثورة أخضعت الكنائس للدولة وصادرت أموالها، وسرحت رهبانها وراهباتها وأصدرت تشريعات حلّت كل الجمعيات الدينية، فأمسى رجل الدين مجرد موظف مدني يعمل تحت مظلة الحكومة، فالعلمانية التي جاءت كرد فعل على الطغيان الكنسي منحت (حرية التدين) الشخصي بدلاً من الالتزام بالكاثوليكية، بل إن مبدأ (الحرية الدينية)، يعد من أهم المبادئ التي ظهرت في ظل العلمانية الغربية وفق معادلة (الشمولية في الاعتقاد والمحدودية في الممارسة) أي أن للفرد كامل الاختيار باعتناق أي دين يريد شريطة ممارسة تعاليمه ومعتقداته في أماكن وأزمنة محددة مثل دور العبادة والمناسبات الدينية.

وبحكم تأثير الثورة الفرنسية على منظومة القيم الإنسانية، التي سادت أوروبا والعالم الجديد في القارة الأميركية، فقد نشأت أنماط مختلفة من الفكر والممارسة العلمانية، فوجدت علمانية (معتدلة) كما في بريطانيا وأميركا التي تفصل الدين عن الحياة مع السماح بممارسة كل أشكال الحرية الدينية وقيمها لدى الفرد، وعلمانية (محايدة) كما في فرنسا التي تسمح بقدر معين من الحرية الدينية من حيث الاعتناق يقابله رفض ممارسة القيم الدينية في مؤسسات الدولة، كما هناك علمانية (معاندة) أو متطرفة كما في الدول الشيوعية السابقة التي رفضت التعبد وإظهار القيم الدينية، حتى أنها حاربت الإسلام في الجمهوريات السوفيتية السابقة بشكل دموي.

هذا البعد العلماني بخلفيته التاريخية الحضارية يُمكن أن يفسر حالة القلق التي تنتاب بعض الحكومات والمؤسسات والشخصيات الغربية إزاء أي ظاهرة إسلامية، أو ممارسة شعيرة دينية من قبل الجاليات المسلمة في الغرب، وكون (الحجاب) يُعّد من أبرز المظاهر الدينية الإسلامية التي تتصل ب(الحرية الدينية) من جهة ومن جهةٍ أخرى ب(حقوق المرأة) التي يدندن حولها الغرب، فضلاً عن قيمة الحجاب الأخلاقية وفضيلته السلوكية التي لا تنسجم مع فلسفة الليبرالية التحررية، فقد نال (الحجاب) نصيب الأسد من الأحداث والمواقف الأوروبية، التي تكشف حقيقة (علمانية الغرب) من حيث تطبيقها للحرية الدينية، وكيف ضاقت ذرعاً بقطعة قماش تغطي بها المرأة المسلمة شعرها، فقد سبق أن أصدرت الحكومة الفرنسية عام 2004م قراراً بمنع ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية، لأنه يتعارض مع الطابع العلماني للدولة، وقد عزّزه الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي هذا العام بخطاب ألقاه تحت قبة البرلمان الفرنسي يتعلق بنقاب النساء المسلمات (البرقع)، مؤكداً أنه سيمنعه في فرنسا، لأنه يمثل عبودية للمرأة وإهانة لكرامتها حسب رأيه، وهو بهذا يستدعي كل المواقف السلبية التي اتخذتها أو أعلنتها حكومات وشخصيات ومنظمات غربية، فجدل الحجاب ما زال مستمراً في ألمانيا، وقد كان من نتيجته مقتل المسلمة المحجبة مروة الشربيني على يد متطرف في محكمة ألمانية قبل أيام، أيضاً منعت بلجيكا الحجاب في (90%) من مدارسها، على الرغم أنها سمحت به لنائبة مسلمة من أصل تركي في برلمان بروكسل الإقليمي، كما دعت وزيرة الداخلية النمساوية منع المدرسات المسلمات من ارتداء الحجاب، معتبرة أن ارتداءه يتنافى مع قيم المجتمع النمساوي، كذلك طالبت الأحزاب اليمينية في هولندا بحظر الحجاب، وعلى نفس المنوال طالبت عدة جمعيات نسوية وحكومية في إيطاليا وأسبانيا والبرتغال باقتفاء أثر فرنسا، وفي الدول الاسكندينافية تقوم بعض المؤسسات الاجتماعية المدعومة حكومياً بإجراء اتصالات مع فتيات مسلمات لسؤالهن: هل أكرهن على ارتداء الحجاب؟ ولا يستغرب إذا ما أفضى ذلك إلى مناقشة قضية الحجاب على مستوى الاتحاد الأوروبي، ومن ثم حظره وفق دستور الاتحاد في سبيل توحيد النمط الاجتماعي الأوروبي.

إذاً المسألة لا تتعلق ب(أكذوبة) حرية التدين التي طالما تغنى بها الغرب واتهم بها دول إسلامية تضم في مجتمعاتها أقليات غير مسلمة، إنما المسألة (حضارية) مرتبطة بقيم الإسلام التي يُدرك الغرب أنها تمثل تهديداً حضارياً للأنموذج الليبرالي في مجتمعاته، كونه الدين الوحيد الذي يجمع بين الروح والمادة، بين العلم والإيمان، بين الشريعة والعمران، بين عبادات الدين ومعاملات الدنيا، هذا التوافق تحقق على يد نساء مسلمات في الغرب، فحجابهن لم يمنعهن من التعليم والانخراط في العمل وتشكيل العلاقات الإنسانية والمشاركة في المناشط الحضارية.

إذاً كيف يقول الغرب إنه يقبل ب(الحريات الدينية) في نفس الوقت الذي يرفض فيه تطبيقات هذه الحريات، لأن العبرة الحقيقية في فلسفة الحرية هي في أن يمارس الفرد بكامل اختياره (المبدأ والتطبيق) معاً، أما أن تسمح له باعتناق دين ما، ثم تقيد ممارسته لمعتقدات هذا الدين، فهي (حرية دينية منقوصة)، وهذا برأيي إحدى الأزمات الحضارية التي يعيشها الفكر الغربي اليوم.



Kanaan999@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد