Al Jazirah NewsPaper Saturday  18/07/2009 G Issue 13442
السبت 25 رجب 1430   العدد  13442
أين أتطوع؟؟؟
د. فوزية البكر

 

انتهى الدوام الصباحي.. انقضت أيام الركض للحاق بلحظات ماقبل الحصة الأولى.. وسكن الطلاب وآباؤهم يخلدون لراحة طويلة طويلة... بعضهم يحلو له كل ذلك وله كل الحق فالصباحات المبكرة كانت كثيرة لكن مالذي يفعله آخرون تضج أيامهم بالملل وتقتلهم ساعات الفراغ الوحشية الفارغة.. أين يذهبون.. وكيف يوجد الهدف الذي يجدد معنى وجودهم ويجعل له بعض .....

.....القيمة؟؟ التطوع بلا شك احد الأبواب المشرعة في العالم كله.. حيث نجد الشباب والكبار والمتقاعدين وحتى رجال الأعمال المشهورين ورؤساء بنوك مشهورة... كل يحرص على تخصيص بعض من وقته لأجل اهداف عامة يتطوع بها او دعما لمؤسسة تتبنى قيما يعتقد بصحتها.

هناك أكثر من 90 مليونا متطوعا في الولايات المتحدة وحدها والتي يكاد سكانها ان يبلغوا الثلاثمائة مليون وهناك عدد لا يحصى من المنظمات الخيرية وغير النفعية في كل الحقول والمجالات التي قد لا تخطر على بال حتى انني شخصيا وقبل سنوات حضرت في إحدى المرات في الولايات المتحدة اجتماعا لجمعية الأمهات اللاتي يبكي اطفالهن دون توقف!! وحضرت اجتماعا لجمعية دعم الشخص الواحد وهدفها ان تحقق حلما او ترفع ظلما او تساعد على تحقيق امل واحد لشخص واحد فقط!! وقد بدا لي الأمر آنذاك وما زال ترفا حضاريا لايتوازى مع حجم المطالب التي تضج بها جنبات عالمنا المأزوم بالحروب والمجاعات والفوارق الطبقية والاجتماعية! لكنها امريكا بكل تناقضاتها الجميلة التي تخلق الفروق! لماذا تندفع كل هذه الملايين في الولايات المتحدة والغرب عموما لتمارس فضيلة التطوع؟؟ ماهي العوامل الثقافية والمجتمعية التي تجعل التطوع جذابا وبسيطا وسهلا في ممارسته والوصول اليه مقارنة بحجم غيابه عن واقعنا المحلي؟؟ هناك بلا شك قيم مجتمعية تتميز بها المجتمعات المتحضرة وتؤكد على اهمية العطاء الفردي للمجموع لكن التطوع كقيمة وممارسة يبدأ بالتجذر منذ التحاق الطفل بالنظام التعليمي حيث يلعب هذا النظام في الكثير من الدول الغربية دورا اساسيا في تأكيد وتثبيت مفاهيم العمل التطوعي.. فطالب المرحلة الثانوية مثلا لا يتمكن من الحصول على شهادة الثانوية الا بعد انهائه خمسين ساعة من العمل التطوعي في مؤسسات المجتمع المختلفة ومن ثم هناك نظام كامل وقائم للمتابعة والاتصالات مابين المدارس والمنظمات المختلفة لضمان الانتقال المنظم للطلاب كمتطوعين في هذه المؤسسات كما ان هناك نظاما كاملا للرقابة من قبل المؤسسات الخيرية نفسها للتأكد من إكمال الطلاب متطلبات العمل التطوعي الذي يكلفون به حتى يحصلوا على توقيع المؤسسة بانهائهم الساعات المطلوبة في التطوع لنيل شهاداتهم.

هنا نصل إلى العمل المؤسسي الذي يرسخ مفاهيم العمل التطوعي كثقافة اساسية يمارسها الجميع ومن خلالها يتعرفون ويعملون مع مؤسسات المجتمع الخيرية المختلفة وقد ينتسبون لاحقا كمتطوعين نشيطين في اي من هذه المؤسسسات التي تعتمد على اعمالهم بشكل رئيسي وهذا ما أوصل حجم التبرعات للأعمال الخيرية في الولايات المتحدة في احد الأعوام القريبة الى 212 مليار دولار.. اي اكبر من حجم موازنات دول قائمة.

وزرع قيمة العمل التطوعي عبر المدرسة جعل الأسرة كلها مؤمنة بالتطوع مما يزيد من ثباته وقيمته بين الأفراد وأساسيته لعمل المؤسسات الخيرية نفسها فالأب والأم المتطوعين يؤكدان على قيمة التطوع ويثبتانها كاحد اوجه العمل المجتمعي الذي يمنح الفرد قيمة ويرسخ المفاهيم الاجتماعية العادلة ويدافع عنها وهو الأمر الذي اكدته العديد من الدراسات ومنها واحدة اجريت عام 2005 على عينة من طلاب المدارس من سن 12-18 وهدفت للتعرف على العلاقة بين المؤسسات الاجتماعية (العائلة، المنظمات الدينية، المدرسة) وبين مستوي المشاركة التطوعية لدي الطلاب والتي أظهرت ان المراهق الذي يتطوع أحد والديه على الأقل يكون أكثر ميلا للتطوع المستمر ثلاثة اضعاف المراهق الذي لا يوجد في أسرته متطوعون مع ملاحظة أنهم قد لا ينخرطون في نفس مجال التطوع الذي مارسه الأهل وكما قد نتوقع وجد ان المراهقين الذين يحضرون المناسبات الدينية أكثر ممارسة للعمل التطوعي بضعفي المراهقين الذين لا يحضرونها.

وفي دراسات أخرى حاولت التعرف على العوامل الشخصية والمجتمعية والثقافية التي تدفع المرء للتطوع حيث ظهر أن هناك علاقة ايجابية بين التطوع في المرحلة الثانوية والتطوع فيما بعد و ان 54% ممن تطوعوا إبان المرحلة الثانوية تطوعوا مرة أخرى خلال السنوات الثماني التالية ولم يكن الأمر وقفا على ذلك بل وجدت الدراسات التتبعية المختلفة ان الطلاب والطالبات الذين يميلون للتطوع هم أكثر نجاحا فيما بعد في سوق العمل وهو ما يؤكد ان التطوع لا يحقق فقط اهداف المؤسسات التطوعية بل يغير من نظرة المرء إلى نفسه وإمكاناته وأهدافه بما يساعده على وضع أهداف شخصية قابلة للتحقيق.

الغريب في نتائج بعض الدراسات انها وجدت ان الطلاب ذوي المكانة الاجتماعية والاقتصادية الأعلى اكثر اهتماما بالمشاركة التطوعية من ذوي المكانة الاجتماعية والاقتصادية المنخفضة!!!! أو هل هو فعلا غريب؟؟ الفقراء مشغولون بلقمة يومهم بدرجة تشغلهم عن العناية بقضايا مجتمعية كما ان الوالدين في العادة لا يتوافر لديهم مستويات التعليم او التدريب التي تسمح بطرح ومناقشة احتياجات المؤسسات الخيرية امام الاطفال اضافة الى انهم نادرا ما يكونون من المساهمين في نشاطاتها إن لم يكونوا احد المتلقين لخدمات هذه المؤسسات الخيرية.

بعض الدراسات المحلية مثل دراسة فاطمة المعجب من جامعة الملك سعود (2009) اظهرت ميل طلاب المناطق البعيدة عن المدن الكبيرة (المدن قليلة السكان) الى ممارسة التطوع مقارنة بطلاب المدن الكبيرة وهو ما تثبته التجربة المعاشة في كل مرة يتاح لي فيها زيارة أي من مناطق المملكة فحجم مساهمة وحماس المرأة مثلا في القصيم وفي عنيزة وبريدة وكما رأيتها يفوق بمراحل حجم مشاركة المرأة من الرياض وهو الأمر الذي لمسته ايضا في منطقة هادئة وجميلة مثل الغاط حين اتيحت لي زيارتها بدعوة كريمة من مؤسسة الأمير عبدالرحمن السديري الخيرية قبل أشهر وساهمت النشطة ابنته لطيفة السديري في تعريفنا بالمؤسسات والخدمات الخيرية التي توفرها المؤسسة للمنطقة التي برزت فيها ابنة المنطقة نشطة ومتحمسة كما لا تجده في بنات المدن.

هذا ببساطة يعني ان هناك ارضية خصبة لزرع قيم العمل التطوعي وتأصيل مفاهيمه في نفوس الناس والشباب على وجه الخصوص وما نحتاجه هو أسلوب للعمل تتبناه المؤسسات التطوعية لاستقطاب الطلاب والنشطين مع القدرة على ادارتهم وتحقيق الاستفادة القصوي من امكاناتهم وعدم تهميشهم كما يحدث اليوم وخاصة في فصل الصيف.

نحتاج في هذا السياق ولتأصيل العمل التطوعي كأحد المصادر الأساسية للعمل الاجتماعي وخدمة الناس الى ادخاله ضمن آلية العمل التعليمي ولا نحتاج الى لجان خارقة للعادة تكتشف لنا كيف فهناك آليات مطبقة اصلا في كثير من الأنظمة التربوية وما علينا الا ان نفتح اعيننا وننظر خارج الصندوق ونستقي من هذه الأنظمة الحديثة ما قد يكون قابلا للتطبيق مع اخذ المعطيات المحلية بعين الاعتبار مع الايمان بأن المجتمعات الحديثة ونحن نسير في ركابها شئنا ام ابينا تحتاج إلى العمل التطوعي للأفراد بقدر حاجتها للعمل الحكومي.






 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد