قديماً قالوا: (إذا كنت في حاجة مرسلاً.. فأرسل حكيماً ولا توصيه)..
فالحكيم راجح العقل، متزن الفكر، معتدل السلوك، فاهم للمهمة التي أُرسل من أجلها، مدرك لحقيقة ما يعلق عليه من آمال، وما يتوقع منه من إنجاز، ولذلك ظهر منذ حياة الإنسان على سطح الأرض الوسطاء الساعون بالخير، والمعروفون بمقدرتهم على إصلاح ذات البين وإخماد الفتن، وبث الطمأنينة في النفوس وتوطيد الصلات بين الناس. ومع تطور الحياة وتعقد المصالح وتشابك العلاقات بين الجيران من الدول ظهرت السفارات، وبرز على ساحة التعامل الدولي السفراء المعتمدون في ظل تطور العلاقات الدبلوماسية بين الدول ووجدنا في قواميس هذه العلاقات مصطلحات مستحدثة أوجدتها طبيعة العمل الدبلوماسي، فوجدنا السفير والقنصل والوزير المفوض والقائم بالأعمال، وتعددت المسميات والمصطلحات ما بين سفارة وقنصلية ومهمة رسمية، وشخص غير مرغوب فيه، وأوراق اعتماد، وسحب السفير وعودة السفير، واستدعاء السفير، وغير ذلك مما أفرزته العلاقات بين الدول في عالمنا المعاصر.
ومهما كانت طبيعة التطور الذي شهدته تلك العلاقات ومهما تعددت المسميات والمصطلحات، يظل القول المشهور منذ أمد بعيد (أرسل حكيماً ولا توصيه) هو المسيطر الأكبر في ساحة انتقاء السفراء وأمثالهم، حيث تحرص الدول على حسن انتقاء مَنْ يمثلها لدى غيرها، وتضع فيه آمالها في حُسن التمثيل، وصدق الأداء، وسلامة التوجه، وإخلاص العمل، ولذلك ظهر لدينا - وعلى مسمع من العالم - ما يُعرف باستقبال السفراء الجدد وتقديم أوراق اعتمادهم، وكذلك عرف العالم بمختلف دوله ما يحرص عليه القادة من توجيه للسفراء قبل انطلاقهم لممارسة مهامهم التي تم اختيارهم من أجلها.
ونحن في المملكة العربية السعودية عرفنا (السفارة) بمفهومها منذ وقت بعيد وسجلها الأدب العربي بين طياته وارتبطت بالحكمة والحنكة والفصاحة ولين الجانب وحسن الخلق والقدرة على الإقناع والحرص على المصلحة، وفي وقتنا المعاصر وجدنا اهتماماً متنامياً ومتزايداً باختيار السفراء وبتذكيرهم بعظم المسؤولية التي تقع على عاتق من يمثلون بلداً هذا شأنه: مهبط الوحي، قبلة المسلمين، رمز الإسلام في الأرض، مقصد الحجاج والمعتمرين ومَنْ يشدون الرحال إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا البلد الذي حاز مكانة روحية منحه الله إياها، ومكانة سياسية واقتصادية وموقعاً مهماً على ساحة العمل الدولي، هذا البلد الذي انتشر أبناؤه ينهلون من العلوم والتقنية خارج الوطن، وتطلبت ظروف بعضهم أن يتنقلوا بين أرجاء المعمورة الفسيحة.
مثل هذا البلد تقع على عاتق سفرائه مسؤوليات كبيرة وعظيمة ليكونوا على مستوى التمثيل وليترجموا تمثيلهم هذا إلى واقع وسلوك يستشعره أبناء الوطن في الخارج وينقلون صورته وحقيقته شكراً وفخراً إذا عادوا أدراجهم إلى أرض الوطن.
غير أن ما تتناقله الصحف بين الحين والآخر، وما يتم تداوله من حديث خلال اللقاءات يحمل من الهم والشكوى أكبر مما يحمل من الشكر أو الثناء، مما يجعل بعضهم يتساءل عن أفضل السبل لتحسين واقع تعامل السفارات مع أبناء الوطن الذين يفترض أن تكون في خدمتهم: تفتح أبوابها ولا توصدها إذ من غير المقبول أن تكون سياسة الباب المفتوح التي يألفها المواطن داخل الوطن من خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين يحفظهما الله ومن كل المسؤولين أن تكون هذه السياسة مفقودة في بعض سفاراتنا في الخارج مع أن المفترض أن ابن الوطن يجب أن يستشعر عند ذهابه لسفارة وطنه أنه داخل الوطن نفسه يعيش في دفء العلاقات الحميمة التي تعودها الجميع هنا بين ولي الأمر وأبنائه المواطنين.
كيف السبيل إذن لتحسين واقع سفاراتنا في تعاملها مع أبناء الوطن حتى لا تقرأ بعدها عن شكوى، أو لا يجد المواطن نفسه في الخارج بلا سند ولا معين؟
وحتى لا يُفهم من ذلك التساؤل غير ما قصدت فإننا نسجل حرص دولتنا على حُسن الاختيار، بل وحسن التوجيه، وحرصها على تأكيد السفراء عند اختيارهم بمراعاة مسؤولياتهم، وقد ضرب خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يحفظه الله مثالاً على ذلك حين يُوصي السفراء الجدد (بالحرص على تقوى الله عز وجل وأن يكونوا خير سفراء يمثلون دينهم ووطنهم وشعبهم).
وأن عليهم أن يستلهموا من كلمات القائد يحفظه الله كل المعاني التي تساعدهم على أداء عملهم لخدمة المواطن في الخارج، ويعمق الرباط بينه وبين وطنه بحسن التعامل وبشاشة الوجه، وابتسامة اللقاء.
إن متابعة أداء السفارات وتقويم عملها مع المواطن هو الأداة الفاعلة في التحسين والتطوير، والاستماع لما يوجّه من نقد أو شكوى هو السبيل أيضاً للوقوف على حقيقة ما يتم تداوله عبر الصحف، ولن يكلف ذلك كثيراً ما دمنا نسعى إلى تحسين كفاءة الخدمات التي تقدمها السفارات للمواطن خارج الوطن، فالمزيد من المتابعة والكثير من التقويم، حتى تُؤدي السفارات عملها بالصدق والأمانة والإخلاص.
وكيل الوزارة بوزارة الثقافة والإعلام – سابقاً