Al Jazirah NewsPaper Friday  31/07/2009 G Issue 13455
الجمعة 09 شعبان 1430   العدد  13455

مستعمرات إسرائيل وقواتها المسلحة وجهان لعملة واحدة
اللواء الركن (م) سلامة بن هذال بن سعيدان

 

تتناقل وسائل الإعلام في هذه الأيام بعض التصريحات التي يتفوه بها بعض المسؤولين في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية، والتي يدعون إسرائيل من خلالها إلى وقف بناء المستوطنات، والعودة إلى طاولة المفاوضات والتحدث بلغة السلام، في حين يصرح المسؤولون في ...

... الدولة العبرية بأن حكومتهم مصرة على الاستمرار في مشاريعها الاستيطانية، ولغة السلام المفهومة هي لغة القوة، وحيثيات هذه اللغة معلومة، إذ ليس هناك سلام مقبول إلا السلام الذي تمليه قوة السلاح، والضغوط والتنازلات يحق للقوي استعراض القوة لرفضها من جانب، والتلويح بهذه القوة لفرضها على الضعيف من جانب آخر.

ومن المفارقات العجيبة أن هذه الدول التي تدعو على استحياء إلى وقف الاستيطان الإسرائيلي هي التي تبنته فكرة ثم رعته واقعا معاشا لأكثر من خمسة عقود، والآن يبدو أن السحر انقلب على الساحر والابن المدلل أصبح عاقاً، وأن صحوة الضمير الأمريكية والغربية يقابلها عقلية إسرائيلية متخشبة، وضمير ران عليه سواد الظلم وغطرسة القوة.

والاستمرار في بناء المستوطنات رغم أنه يشكل عقبة كأدا في وجه الجهود المبذولة لإحياء محادثات السلام واستئنافها من قبل طرفي الصراع إلا أنه ليس العائق الوحيد، بل ثمة تعقيدات عصية على الحل بسبب خلفية الصراع الدينية والتاريخية والتراكمات والضغوط النفسية والمعنوية، ناهيك عن اتساع الهوة بين الطرفين ووقوف كل منهما من الآخر على طرفي نقيض، وشتان بين مَنْ بلغ به الضعف كل مبلغ حتى أنه منشغل بنفسه ومنقسم عليها وبين ذلك الذي يتخندق خلف القوة ويمتطي السياسة، مستخدماً طرفي المعادلة بالتناوب من حيث التقديم والتأخير بالصيغة التي تجعله يتفاوض من مركز قوة، رافعاً عصاه الغليظة كلما استدعى الموقف ذلك.

وتحاول إسرائيل دائما أن تجعل من مفهوم الدفاع عن النفس وقضية الحدود الآمنة حجة تنطلق منها، وذريعة تتذرع بها لتصعيد المساومات وتعطيل المطالبات من أجل الاحتفاظ بأية أرض سبق أن فرَّغتها من أهلها وامتلكتها، والضمانة الأكيدة لتحقيق هذه الغاية تكمن في تسخير السياسة وإقامة المستعمرات الاستيطانية لتحويل هذا الامتلاك إلى واقع سياسي قائم، ثم تكريسه بفرض الوجود المادي مع توسيع نطاقه وزيادة مجالات عمله في المستقبل، عن طريق الهجرة والاستيلاء على مزيد من الأراضي لتوطين المزيد من المهاجرين وإنشاء المدن وبناء المستعمرات.

وهجرة يهود العالم إلى أرض فلسطين بعد تفريغها من سكانها، ثم خلق حقائق جديدة وضمانات كفيلة بالمحافظة على الكيان الجديد، تعني من الناحية العملية استباحة شريحة من أرض الغير لإقامة دولة عنصرية عليها، لتكون قاعدة ومنطلقاً لمزيد من التوسع والسيطرة إلى أن تتحقق الغاية القومية النهائية بكل جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية ولسان الحال كما قال الشاعر:

سنّ الضغائن آباء لنا سلفوا

فلن تبيد وللآباء أبناء

وتضطلع القوات المسلحة الإسرائيلية بدور أساسي ومهم في المجتمع، حيث إن هذا الدور يجعل من الحياة العسكرية بمثابة بوتقة تصهر جميع عناصر المجتمع على النحو الذي يجمع بين الأسس القومية والعقائدية وبين قيم العنف والقوة والروح العدوانية، والتداخل الشديد بين الحياة العسكرية والحياة المدنية بصورة يصعب الفصل بينهما نجم عنه تعاظم دور القوات المسلحة وتأثيرها في مختلف مجالات الحياة وبخاصة في المجال السياسي، وقد قال أحد اليهود بشأن هذا الوضع: (إن شعب إسرائيل هو الجيش والجيش هو الشعب، إذ إن جميع المواطنين هم أفراد في الجيش، وهذا الوضع وحده يؤمِّن شروط بقاء جزيرة إسرائيل في محيط عربي).

وقد ساهمت المستعمرات في تكريس هذا التداخل وأصبحت القوات المسلحة تمثل رأس رمح لقوات أخرى هي المجتمع، وهذه المستعمرات هي الوجه الآخر للقوات المسلحة من حيث القدرة على حماية نفسها وما يتوفر لها من أنظمة وتشتمل عليه من طرائق حياتية وأساليب عملية، بوصفها تجسيداً مثالياً للصهيونية وحاجاتها الأساسية بفضل ما تتسم به من صبغة لاجتذاب أعداد كبيرة من المهاجرين واستيعابهم نفسياً ومعنوياً واقتصادياً، وتدريبهم تدريباً يؤهلهم للانضمام لقوة المقاتلين البنّائين الذين وصفهم دافيد بن غوريون بقوله: (إن أرض إسرائيل ستكون أرضنا حين يصبح عمالها ومحاربوها بين صفوفنا، إذ إن الغزو الحقيقي للأرض بواسطة العمل هو الواجب السامي الذي يواجه طلائع الأمة من بنائي الأرض وحراسها).

وبقدر ما تكونت هذه المستعمرات على هيئة حصون عسكرية في نقاط الحدود الاستراتيجية، بقدر ما جسدت واقع حركة ذات جذور عميقة وأثر بعيد في حياة الكيان الإسرائيلي، إذ كان لطبيعة تركيبها وحياتها وأهدافها ومواقفها أكبر الأثر في ولادة الجيش السري في فلسطين، وما واكب ذلك من نشر أجواء الشعور بالاستنفار والروح القتالية في المجتمع الإسرائيلي، وإلى هذه المستعمرات تنتسب الأحزاب الرئيسة ونسبة كبيرة من النخبة الحاكمة.

وقد أدركت إسرائيل مبكراً أهمية موقعها البحري واعتبرت البحر وما يقام عليه من مستعمرات على درجة كبيرة من الأهمية، فضلاً عن أن ذلك يشكل ضرورة أمنية بالإضافة إلى ضروراته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ومرد هذه الضرورة يعود إلى أن استعمار الأرض يخضع للكثير من القيود أما استعمار الماء فلا قيود عليه، وقد أشار ابن غوريون إلى ذلك معدداً مزايا مستعمرات البحر على مستعمرات البر حيث قال: (إن الأمن يعني أيضاً غزو البحر والجو، كما يعني الأرض، ويجب أن تتحول إسرائيل إلى قوة بحرية مهمة، حيث إن الشعوب التي تعيش بجوار البحر مؤهلة للتحول إلى قوة بحرية عظمى).

وقد توسلت إسرائيل جميع الوسائل لتفريغ الأراضي من أصحابها واستيطانها توطئة لإضفاء سياسية الضم عليها عن طريق بناء المستعمرات فوقها وطمس هويتها العربية واستبدالها بهوية إسرائيلية، وهذا الضم المرحلي، ما هو إلا بداية الطريق نحو الضم الشامل من خلال خلق واقع جديد يقود إلى واقع آخر طبقاً للاتجاه المرسوم والهدف المعلوم والمزعوم في الفكر اليهودي.

والواقع أن إسرائيل قامت على الغزو والاستعمار الاستيطاني منذ ولادة دولتها، مبررة ذلك بالحفاظ على أمنها والدفاع عن كيانها، بحيث امتزج مفهوم الأمن والدفاع بمفهوم استعمار الأراضي والهدف من الهجرة إلى فلسطين، علاوة على تداخل هذا المفهوم مع ما يوحي به تاريخها ومعتقدها الديني من غيبيات وأهداف موغلة في التقادم التاريخي.

وانطلاقاً من هذه القاعدة، فإن تبني مبدأ العنف والاعتماد على القوة لم ينحصر في التركيبة السياسية الحاكمة للدولة وقواتها المسلحة، بل امتد ذلك إلى المجتمع الإسرائيلي الذي وجد في هذه النزعة العدوانية ما جعله يعمل على عدة جبهات، فهو يبني المستعمرات ليستقر من جهة، ويستوعب المهاجرين الجدد من جهة ثانية، وينتظم في صفوف القوات المسلحة ليحارب من جهة ثالثة، والدفاع عن النفس بالنسبة لإسرائيل وشعبها يعني الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وبناء المستوطنات عليها، واختلاق المبررات لهدم المنازل ومصادرة أرضها وحرمان أهلها منها ظلما وعدواناً، وتهديد أمن إسرائيل وحماية شعبها تمثل أهم الذرائع التي يتم اللجوء إليها بصورة مستمرة للاعتداء والإمعان في العنف داخل حدود إسرائيل أو خارجها، وموقف الطرف الأضعف كما قال الشاعر:

ومهما يطل عمر المظالم في الورى

فأطول أعمار المظالم أقصر

ستبقى البرايا بين غادٍ ورائحٍ

تئن من البلوى وأخرى تزمجر

وترتيباً على ذلك فإن الذي يلقي نظرة تحليلية فاحصة على الاعتداءات والحروب التي خاضتها إسرائيل منذ نشأتها وحتى اليوم تتضح أمامه بجلاء تلك الطبيعة العدوانية للشعب الإسرائيلي والتي تعتبر الطبقة الحاكمة صورة مصغرة منه، وممارساتها تعكس طبيعة هذا الشعب ونزعته نحو الاستيطان والغزو بالشكل الذي تتحقق معه الرسالة الصهيونية.

ومن هذا المنطلق فإن قيام دولة إسرائيل عن طريق الاستعمار الاستيطاني والحرب يمثل مسألة جوهرية وليست عرضية، ويرجع ذلك إلى أن إسرائيل جعلت من نفسها دولة حرب لكونها باستمرار في حالة حرب، وعملية الاستعمار الاستيطاني يشكل نواتها ويجسد كنهها ذلك المستوطن الذي استوطن المستوطنة والتحق بالجندية، معتنقاً نظرية الحرب الشاملة التي فرضتها عليه قيادته، معبرة عن عقيدة الشعب الإسرائيلي وطبيعة تكوين هذا الشعب الذي يؤمن بحتمية الحرب مدفوعاً بضغينته وأحقاده، ومنطبقاً عليه قول الشاعر:

إن الضغينة تلقاها وإن قدمت

كالعرِّ يكمن حيناً ثم ينتشر

وحتمية الحرب يترتب عليها وجود القوة، والقوة تفرض تحت ظلالها القوانين التي تبيح إبادة الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه وبناء المستوطنات عليها، كما تتيح غزو أراضي الدول المحيطة، وما ينجم عن هذا الغزو من التوسع وتجريد المناطق المجاورة لحدود الدولة العبرية من السلاح لتجعل منها حزاماً آمناً، يُبعد عنها مصادر الخطر ويكسبها هامشاً أمنياً واسعاً، وعن طريق القوة العسكرية الرادعة والقوانين الصالحة للتطبيق أصبحت إسرائيل نموذجاً واقعياً للمعادلة الشرطية التي قالها السياسي الإيطالي ميكيافيلي في القرون الوسطى وهي: (لا يمكن أن توجد قوانين صالحة إلا حيثما توجد أسلحة قوية، وحيثما توجد أسلحة قوية توجد قوانين صالحة).

ومفهوم الأمن والدفاع في المذهب العسكري الإسرائيلي هو مفهوم حركي، ويوجد مجاله الحيوي خارج حدود إسرائيل، بوصف هذا المفهوم في حقيقته يعتبر مفهوماً هجومياً عدوانياً، ينبثق من طبيعة العقيدة الصهيونية وأهدافها السياسية، وينسجم مع طبيعة المجتمع الإسرائيلي وعقليته، ومن هذا المفهوم يتبلور الجانب التطبيقي الذي يعني أن الدفاع عن كيان إسرائيل وأمن حدودها وحماية مكتسباتها وصيانة منجزاتها يقتضي الامتداد والتوسع.

والمستعمرات الاستيطانية توأم القوات المسلحة وامتداد لها في الداخل، بحيث يخدم كل منهما الآخر، فالقوة تفسح المجال أمام إقامة المستوطنات واغتصاب الأراضي بقوة السلاح، وفي الوقت نفسه فإن الاستيطان يمثل عنصراً حيوياً لدعم العمل العسكري، وتزويده بالقوة الدافعة عن طريق المهاجرين الغزاة الذين ينخرطون في سلك القوات المسلحة، كما أن إقامة المستعمرات تمكن من عمارة الأرض واستيطانها، وفي ذلك تعزيز للأمن وتقوية للدفاع بالإضافة إلى ما يوفره من وقت لحشد القوات وتدريبها واستعدادها لمباشرة مهامها.

ويوجد عملية تفاعل نشطة بين عمل القوات العسكرية وما يحدث في المستعمرات الاستيطانية، إذ يشد كل منهما أزر الآخر، ويساعده على النهوض بمهامه، وإذا ما ضعف هذا التفاعل انعدمت الجدوى من الطرفين، إذ لن يصح الاستيطان ما لم تتوفر الأرض، كما أن الوجود العسكري فوق هذه الأرض سوف يضمحل إذا لم ينشط الاستيطان، وهكذا يتوقف نجاح الطرفين على قوة التفاعل بينهما، وما يتمتعان به من علاقات متبادلة وصلات وثيقة.

وهذا يعني أن الاستعمار الاستيطاني لا يمكن أن ينمو ويتطور ما لم يجد له واقعاً يقوم عليه، ولن ينجح ذلك الأمر الواقع في جلب التطور والازدهار للاستعمار الاستيطاني ما لم تؤمِّنه قوة عسكرية تتولى فرضه على أي مناوئ، وتضمن له البقاء، والأرض المستولى عليها عسكرياً تبقى مجدبة حتى يعمل على تخصيبها الاستعمار الاستيطاني، بمعنى أن الاحتلال العسكري لا يخلق وجوداً مادياً دائماً فوق الأرض المكتسبة ما لم يمد الاستيطان بساطه فوقها، وقد قال ابن غوريون في ذلك: (إن الأمن يعني مستعمرات زراعية، والجليل الأعلى ومناطق النقب الخالية في الجنوب هي نقاط الضعف في البلاد، ولا تستطيع أي قوة عسكرية أن تضمن لنا ملكيتها والسيطرة الدائمة عليها ما لم نقم بتوطينها بالسرعة والكثافة اللازمتين).

وإذا ما اقترن التوسع العسكري باستعمار استيطاني تحول الغزو المسلح إلى حق مكتسب بموجب الوجود الاستيطاني فوق الأرض الجديدة، وبمجرد ما يتحول الأمر الواقع إلى حق مكتسب فإنه يخلق وضعاً جديداً يمثل نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى، وقد كتب أبا ايبان في هذا المعنى مقالاً جاء فيه: (وليس من السخف أن نتصور قادة العرب وهم يطالبون في المستقبل بإلحاح بالعودة إلى حدود 1967م، تماماً كما يطالبون الآن بالعودة إلى حدود 1948م التي رفضوها سابقاً.).

وتساعد المستعمرات الاستيطانية بتأمين حدود الكيان الإسرائيلي، وكذلك حماية المناطق الحيوية في الداخل، فضلاً عن أنها تشكل قواعد وثوب للقوات المسلحة للغزو وتحقيق المزيد من التوسع، ناهيك عن اعتبارها مصدراً بشرياً كامل الإعداد والتدريب لتزويد القوات المسلحة بما تحتاجه من الأفراد، كما أنها تقوم بملء الفراغ في المناطق النائية مع المشاركة في تحمّل بعض العبء العسكري عن كاهل القوات المسلحة وإتاحة الوقت الضروري لها للتفرغ لمهامها الأساسية والإعداد والاستعداد للمراحل التالية.

وبالمقابل فإن القوات العسكرية توفر الأرض الضرورية للاستيطان عن طريق الاستيلاء عليها مع المساعدة في الدفاع عن الأرض المستولى عليها حديثا وخلق الظروف المناسبة لإعمارها وازدهارها، كما تعمل على إيجاد الجنود الصالحين لإقامة المستعمرات الدفاعية وتأمين الحدود المعرضة، وكذلك توجيه مسار الاستيطان بالصيغة التي تؤدي إلى مزيد من الدعم الاستراتيجي للدولة.

وقد عمدت إسرائيل في صراعها مع العرب إلى اعتناق نظرية الحرب الشاملة وجعلت من شعبها رديفاً لجيشها، مؤمنة بأن القوة فوق الحق وأن الاستيطان والحرب وجهان لعملة واحدة، ودولة هذا حالها كيف يكون قبولها للحوار وجنوحها إلى السلم في ظل قيادتها الجديدة وامتلاكها للسلاح النووي وهذا هو موضوع المقالة التالية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد