Al Jazirah NewsPaper Sunday  09/08/2009 G Issue 13464
الأحد 18 شعبان 1430   العدد  13464
اما بعد
أين أقلام العقلاء؟
د. عبدالله المعيلي

 

تُصنف الاضطرابات العقلية على أنها أشد خطورة وتعقيداً من الاضطرابات النفسية، وهي حالة تجعل الإنسان عاجزاً عن الإدراك والتفاعل، فهو في حال من اللا وعي وعدم الاكتراث بمن حوله، وبالتالي لا يتفاعل مع المثيرات كما تقتضي معطياتها، وهي حالة من العوق التام تعزل المصاب عن محيطه الاجتماعي، وتجعله في وضع تصادمي مع كل المحيطين به.

في حين أن الاضطرابات النفسية، تعوق الإنسان عن التفاعل الإيجابي مع مثيرات المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، على الرغم من أنه يدرك مضامين هذه المثيرات، ويعي مدلولاتها ويعرفها، فدرجة التفاعل عنده تأتي متأخرة، أو بطيئة، وأحياناً تأتي دون المستوى المطلوب، وهي حال غير مستقرة، تختفي حيناً، وتظهر أحياناً أخرى.

ومواقف الإثارة والتصادم والاستفزاز التي يثيرها البعض، والتي تبدو واضحة في آرائهم وتعليقاتهم على الأحداث وتفسيرهم لها، وما يترتب على هذه المواقف ويتمخض عنها من قلق وقلاقل في المحيط الاجتماعي، تعكس حالة اضطراب معقدة، وهي حالة قلَّ أن تبدو مجتمعة في السلوك الإنساني في آن واحد، وهي لا تنطبق أبداً على الذين يصنعون الرأي ويقودون الفكر، الذين يعرفون بأنهم يظهرون قدراً وافراً من الاحترام والالتزام بقيم المجتمع وثوابته، وحالة النشاز هذه لم تعهد في سلوكات العقلاء، ولا في مواقفهم، فقد جرت العادة أن صنَّاع الرأي وقادة الفكر يُسخِّرون أقلامهم بمهنية وعدل في معالجة هموم المجتمع ومشكلاته، ويستثمرون ما حباهم الله به من قدرات عالية مميزة ورؤى ثاقبة في تحليل المواقف وفق إطارها المجتمعي، ويفسرون الأحداث وفق معطياتها المنطقية، ويطرحون الحلول البناءة المناسبة المتوافقة مع إيمانيات المجتمع وتطلعاته.

ومن المؤشرات الدالة على حالة الاضطراب هذه، الانفعال الحاد في نقد الرأي الآخر، ومجانبة الصواب في تفسير الأحداث والمعطيات، وتحليلها بمنطق متعالٍ يغرد خارج السرب، فالاستخفاف والاستهانة والاستهزاء والاتهام بالانغلاق والانكفاء أضحت سمات لفظية تُطلق على الآخر الذي لا يتفق مع إيمانيات هؤلاء، ليس هذا فحسب، بل تعدى الأمر إلى طرح آراء وأفكار صريحة في تطاولها وتصادمها ومحادتها لما يُعد من الثوابت الراسخة في وجدانات المجتمع الدينية والقيمية.

إنها حالة غريبة، تبدو فريدة في سماتها، وفي مؤشرات تكوينها، فهي مزيج من الاضطراب العقلي والنفسي غير مسبوقة في تاريخ تصنيف الاضطرابات والأمراض النفسية, ومن هنا تبدو صعوبة الحالة وتعقدها، وبالتالي حيرة المتابعين لها.

لقد احتارت أقلام العقلاء في فهم الدوافع والمسوغات المحركة لهذه الاضطرابات، لهذا أحجموا عن تناولها، وفضَّلوا مراقبتها ومتابعتها عن بعد، نائين بأنفسهم عن التعريض بالمبتلين بها، وهذا ينم عن سلبية لا مبرر لها، إن التصدي لهذه الحالات يُعد أمانة في أعناق العقلاء، الذين حتما تسؤوهم أن تتردى الحال، وتصل إلى خلط الأوراق والفوضى، لهذا يجب على العقلاء أن يتصدوا لهذه الحالة، لينقلوها من حالة الاضطراب والتردي، إلى حالة من السواء والاتزان.

وإذا استمرت الأقلام العاقلة، الملتزمة بثوابتها وأُطرها الثقافية، على هذه السلبية وعدم المبالاة، فإن ذوي الأقلام المضطربة سوف يواصلون استفزازهم، وسوف تزداد رؤى التطاول، عندئذٍ يتدابر المجتمع، وتتسع دائرة القطيعة والفرقة، والتناحر والتدابر والإثارة، والطعن والتشكيك، لهذا يجب أن تتدخل أقلام العقلاء لتشفي الجراح، وتعيد الناشز إلى صوابه وسربه، فهذه الأقلام هي الأقدر على تبديد غيوم الوجوم، وقطع الطريق على أعوان الفرقة الذين يطربون للإثارة والتناحر والتدابر، ليس هذا فحسب، بل إن هذه الأقلام العاقلة مطالبة بأن تخطو خطوات عملية تعزز الإخاء، وتستوعب الفرقاء، وترسخ أسس التوافق والترابط والتلاحم بين أطياف المجتمع وفئاته، وفق منظور يستوعب الاختلاف، وينبذ الخلاف.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد