Al Jazirah NewsPaper Tuesday  08/09/2009 G Issue 13494
الثلاثاء 18 رمضان 1430   العدد  13494

الحياء والخطوط الحمراء
اللواء الركن (م) سلامة بن هذال بن سعيدان

 

وعودا على بدء فإن ضوابط السلوكيات والممارسات تنطلق من التكليف الديني الذي يتدخل في حركة الحياة وينظم منهجها، مطالبا الناس بسلوك منضبط، تحدده الأوامر والنواهي بحيث تصوغ هذه الأوامر والنواهي سلوكيات الإنسان وممارساته وفق التكليف الرباني الذي يستجيب لنواميس الكون ومقاصد الحياة على النحو الذي.....

.....يخدم مصالح الناس المشروعة، ويحكم كيفية التعامل فيما بينهم، كما تصطدم النواهي في هذا التكليف مع هوى النفس وشهواتها، الأمر الذي يطلق حركة الإنسان تارة ويقيدها تارةً أخرى، بما يتفق مع لزوميات الدين وينسجم مع واقع الدنيا وحياة الإنسان فيها.

ولا يوجد مشكلة أو قضية تمس حياة الناس إلا عالجها الدين الإسلامي، إما عن طريق الوقاية منها قبل وقوعها أو من خلال علاجها بعد أن تقع، فاتباع تعاليم الدين ومبادئ الإسلام والاحتكام إلى سنة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ومنهجه، كلها تشكل وقاية للمجتمع من الآفات والانحرافات، وفيها ما يحمي الناس من الفساد والداءات، وإذاما غفل الناس عن أمور الدين فإن هذه الغفلة، وما يترتب عليها من آثار ضارة تدفع المجتمع إلى التفكير في العلاج والبحث عن الشفاء، وعندئذ يتم اكتشاف الاهمال والغفلة وما يستدعيه ذلك من الرجوع إلى الله وإصلاح السلوكيات وتصويب الممارسات.

ولو اتبع الناس تعاليم الدين كما أراد الله لهم ذلك لاختفى الشقاء والفساد وصلحت حالهم، ولكن حكمة الله تقتضي وجود الخير والشر وان أي محنة تصيب المجتمع أو فساد يتردى فيه هذا المجتمع يكون سببه هو مخالفة تعاليم الدين والتحلل من ضوابط السلوك السوي وفي مقدمتها خلق الحياء، ونتيجة لذلك تكون الغلبة لنوازغ الشر على نوازع الخير مع الاستجابة لهوى النفس وإغراء الشيطان على حساب الدين والحياء، ومن كابر على المعصية واستمر فيها فقد تحكم في نفسه الهوى وغلب عليها نزغ الشيطان، وإذاما اعترف بذنبه ورأى في معصيته اتهاما لنفسه وظلما لها فالدخول في مناط الاستغفار متاح له وباب التوبة مفتوح أمامه.

ويعتبر الحياء مظهرا من مظاهر الدين ومكملا له بوصفه شعبة من الإيمان وفضيلة من الفضائل الإنسانية، وارتباط الحياء بالذات واعتماده على الوازع الداخلي والرقابة الذاتية، واهتمامه بإصلاح الباطن والحرص على الوفاء بكل ما يؤتمن عليه الناس، كل ذلك يضفي عليه قدرا من الفاعلية، ويمنحه خصوصية مميزة فيما يتعلق بالسيطرة على السلوكيات وضبط الممارسات، خاصة وان هذا الخلق يصل تأثيره إلى حيز واسع، ويمتد ظله إلى هامش اضافي، يغطيهما التكليف وتدخلان في مجاله ومحيط مفعوله، دون أن يكون له سلطة كاملة عليهما، فضلا عن بروز دور الحياء في الأمور التي يطغى عليها الطابع الاختياري، شأنها في ذلك شأن النمط الإلزامي، وتلك التي تخضع للتذمم وحكم الضمير ولا تقع تحت طائلة المساءلة والعقاب.

وحتى في ظل الترغيب والترهيب وتطبيق قاعدة المثوبة والعقوبة، فإن الحياء يفرض على الذي بيده السلطة، ويتولى ممارسة السيطرة على الناس من خلال الرغبة والرهبة أن يجعل من نفسه قدوة حسنة وأن يطبق العدالة في الحالة الأولى والثانية، ملتزماً بالحدود ومحترما القيود، فلا يعود الناس على الربط بين الترغيب وبين أداء الواجب، ولا يمنح الحافز لمن لا يستحقه، ويحرم المستحق، بل يسلك مسلكا وسطا بين بسط اليد وقبضها من جهة، وبين مستوى السلوك المتبع والعمل المنجز من جهة أخرى، كما يحاول جاهدا ان تكون السلطة أخلاقية، وأن يبرز الاقناع فيها على حساب الارغام وليس العكس، مع مراعاة الالتزام بقواعد تطبيق منح الثواب وتوقيع العقاب، وعلى الجانب الآخر فإن الحياء يمنع الناس من التحول إلى شبه مرتزقة بما يدعو إليه من فضائل، وينهى عنه من رذائل بما في ذلك نبذ الأثرة وتجنب النظر إلى الأمور من زوايا مصلحية واعتبارات نفعية، هذا بالنسبة للترغيب أما فيما يخص الترهيب فإن سلوك الحياء والخضوع للواجب قد يجعل ذلك من الخوف اقتناعا قبل أن يكون انصياعاً، وهيبة أكثر من رهبة.

والحياء يتوسط الضوابط التي تحمي مصالح الناس وتحفظ توازن المعاملات والتعايش فيما بينهم والتي يشكل الدين أصلها والعمود الفقري لها، وكلما قوي الوازع الديني في نفوس الناس واحتل الدين مكانه الصحيح في الحياة تحقيقا وتطبيقا أصبحت هذه الضوابط جزءاً من الدين وانضوت في داخله، أما إذا حصل العكس فإنها تبرز على حسابه، وتنحو منحى آخر، فالحياء يضعف تأثيره ويتحول إلى خجل مذموم، والترغيب والترهيب يفقد كل منها وقاره الدنيوي وسمته الديني، ويخرج عن مفهومه الصحيح إلى مفهوم مشبوه، ويصبح ضرر ذلك أكثر من نفعه بسبب اتخاذ الناس قاعدة الرغبة والرهبة وسيلة لتحقيق مصالح جزئية تتعارض مع المصلحة الكلية مع تغليب مفعول الأولى على الثانية بصورة تجعل الناس تتكالب على الماديات، وتحتكم إليها في مأمن عن المساءلة والمحاسبة، وبعيدا عن المبادئ والقيم، منطبقا على الواقع المعاش قول الشاعر:

إذا لم تصن عرضاً ولم تخش خالقاً

وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع

وبنكوص أكثر الناس عن تطبيق منهج الدين الصحيح، وتراكم أدران الماديات على النفوس، وما أفضى إليه هذا الأمر من انكماس دور الحياء، وتجاهل الناس لحدوده وعدم التقيد بقيوده، ومن ثم الإصرار على هذا التجاهل واعتياده والانتقال من خطأ إلى آخر بالشكل الذي يمثل تغييبا للحياء، ومكابرة على اتباع الهوى، وتجاوزا للخطوط الحمراء، وتقلب المخطئ في الخطأ كيفما يشاء، وكما قال الشاعر:

إذا الإنسان ذو وجه وقاح

تقلب في الأمور كما يشاء

وإذا ما تفشت روح السلبية في أي مجتمع أصبح الصواب يه مهجورا والخطأ مأثوراً، وصار تكرار الأخطاء واعتيادها يسوّغ للمخطئ قبولها والدفاع عنها بدلا من سترها ومحاولة تصليحها، وهذه الممارسات مهما كان نوعها وطبيعة موضوعها، فإن مجافاتها لما يدعو إليه الدين وما تنص عليه الأنظمة، ومعاكستها للمصلحة الوطنية، يجعلها ممارسات غير مسؤولية تتجاوز إسقاط الحياء إلى المكابرة والإصرار على الأخطاء.

ومن اعتاد تجاوز الخطوط الحمراء في ممارساته، ودفعته مطامعه ورغباته إلى التحلل من قيود الحياء والخروج من حدوده، فإنه بهذا الصنيع يرفع راية الفساد، ويدعو إلى التسيب والانحلال، وهذه الخطوط طبقا لمفهوم الحياء هي التي تفصل بين الممكن قبوله وغير المقبول والمستور والمعلن، وتزداد خطورة التجاوز كلما كان الذي لا يستحيي لا تقتصر نتائج فعله عليه بل تتعداه إلى غيره أو ينطبق عليه قول الشاعر:

إذا حرم المرء الحياء فإنه

بكل قبيح كان منه جدير

والبشر خطاءون، وكل إنسان قاب قوسين أو أدنى من الخطأ، ولكن يوجد هامش معين لأي خطأ، يمكن إضفاء الستر عليه أو التغافل عنه، وهناك خطوط حمراء لا يسمح الموقف بتجاوزها بل يجب التوقف عندها، مهما كان في ذلك ما يعاكس الرغبة لأن التجاوز يترتب عليه دفع الثمن غالياً، وهذا الثمن في إحدى حالاته هوالخروج من دائرة الحياء والمجاهرة بممارسات غير مسؤولة والإنسان إذا ما رأى آخر، وهو يتصرف تصرفا يؤذي النظر أو سمع منه ما ينفر منه السمع، فإن رد فعله التلقائي هو أن يقول أين الحياء؟ وثمة الكثير من الممارسات والمظاهر المتفشية في المجتمع والتي تدعو إلى طرح مثل هذا التساؤل والحديث ذو شجون وهو موضوع المقالة التالية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد