Al Jazirah NewsPaper Tuesday  08/09/2009 G Issue 13494
الثلاثاء 18 رمضان 1430   العدد  13494
هذرلوجيا
لا تمثلوا بجثة (ناجي العلي) 1 - 3
سليمان الفليح

 

في نهايات التسعينيات الميلادية من القرن المنصرم (العشرين) جئت من الكويت للاستقرار نهائياً في مدينة الرياض وخصوصاً في حي النسيم لأكون بين أهلي وعشيرتي الأقربين، وفي غمرة البحث عن سكن لائق في المنطقة اصطحبني الصديق الوفي وابن العم والخؤوله معاً (سويلم الرميثي) لإنجاز هذه المهمة الصعبة عليّ آنذاك ولكون سويلم (أبوسلطان) يعتبر ابن المنطقة ومن أوائل ساكنيها ويسميه أهل النسيم الشرقي - تحبباً - العمدة الشعبي لخدماته الجليلة للسكان والمنطقة على حد سواء، أقول اصطحبني سويلم إلى مكاتب العقار والإيجار للبحث عن سكن لي، وكلما أرشدنا مكتب إلى مسكن رفضه سويلم لعيب يراه فيه وحينما كثر ترددنا على أحد تلك المكاتب قال لنا صاحبه وهو ينظر إلى سمسار المكتب: لم يبق لدينا إلا بيت (الفلسطيني) ولا أظنه (يصلح للجماعة)، وهنا استفزني الحس الفضولي للصحفي الكامن في أعماقي فقلت لصاحب المكتب ولماذا تقرر من (عندياتك) أنه لا يصلح للجماعة! والذين هم (أنا)؟! فقال لي بين الابتسامة والخجل: لأن أهل الحارة التي يقع فيها البيت يدعون أنه (مسكون) فقلت له: ما دامه لم يزل (مسكوناً) فلماذا تعرضه للإيجار والسكنى؟ فضحك ثانية وقال لي: يا أخ سليمان أقصد والعياذ بالله أنه (مسكون بالجن!) وهنا ازداد فضولي لكي أرى هذا البيت (المسكون) تحديداً (لربما يعجبني أنا دون سواي)، وهنا تناول (سلسلة) المفاتيح وناولها للسمسار واتجهنا إلى بيت الفلسطيني - (المسكون) - ولحسن الحظ أننا وجدنا الفلسطيني ما غيره يجلس في حديقة البيت وكان الشب قد وخط رأسه وأثقلته الأيام وأعيته رحلة الحياة، فقلت للسمسار مشيراً إلى العجوز الفلسطيني هل هذا هو الجني الذي تقصدون؟ فقال: لا. هذا (أبومصطفى) مالك البيت، وهنا نهض أبو مصطفى مرحباً وهو يضحك (ماعليش ما عليش يا ما سمعناها) يا ابني ثم أخذ يتجول بنا في قصر العجائب - فعلاً - ولكنها ليست العجائب الأسطورية بل (العجائب الفنية) الإبداعية الحقيقية. إذ كان كل ما فيه غير (العظم - الأسمنت) من قطع غيار السيارات!! وأرجو أن لا يستعجل القارئ ويلقي هذا المقال جانباً ويقول: وما علاقة الفن بقطع غيار السيارات الصدئه (السكراب) ولكن القارئ قد يتمهل قليلاً إذا قلت له إن صاحب البيت هو (ميكانيكي - وفنان تشكيلي) معاً يعتمد على (الكتلة المجسدة) في العمل (الفني المعماري) كيف (؟!) وقبل الإجابة على هذه المصطلحات (الفنية المتداخلة) التي يعرفها نقاد (الفن الحديث) أقول إن الرجل قد قضى أكثر من نصف قرن في أعمال ميكانيكيا السيارات وعاش كل هذا العمر بين قطع الغيار والسكاريب، وكان مبدعاً في عمله الذي وفر له أن يبني هذا البيت الذي يعتبر كما يقول هو أول بيت يقام شرق النسيم وحيداً على مشارف الصحراء وحينما اكتمل الهيكل الأساسي للمبنى - أي العظم - قرر أن يكسوه كاملاً بقطع (الحديد - والربل والباغه والمسامير والبراغي والالمنيوم والبساتم والجنوط) والخ الخ، ليشكل كل نوع منها على حدة الديكور الخارجي للمبنى بالإضافة إلى أنواع الحصى المختلفة الألوان التي شكلت قبة البيت الغربية - الجميلة الشكل وكذلك فعل بحديقة المنزل؛ إذ جعل سياجات الممرات التي تتوزع في الحديقة - من إطارات السيارات التالفة والتي صبغها بألوان جذابة لا تكشف لأول وهلة - المادة المستخدمة في تلك السياجات، ناهيك عن (طارات القيادة) التي كان لها استخدام فني في مجالس الحديقة، وقد أقام وسط الحديقة بركة ذات نافورة تعمل بمحرك السيارة ولكنها تعطي أزهى الألوان - كما أن السماعات التي تنطلق منها الموسيقى الكلاسيكية هي سماعات سيارة ثبتها بشكل فني في أرجاء الحديقة.

* * *

أما البيت من الداخل فقد كان مصبوغاً بدهان السيارات الأملس الناعم البراق ولم أر مسماراً واحداً قد دق في الجدار ولو لتعليق لوحة أو صورة واحدة لتضيف جمالاً آخر لجماليات المكان وكان هذا مبعث سؤالي لهذا الفنان العجيب وهنا قادني إلى ركن في المجلس الداخلي ليشير إلى طاولة زجاجية صنعها من زجاج السيارات وكانت تحفل ببعض الصور الخاصة له ولعائلته وأخذ يستعيد لي بعض ذكريات هذه الصور ولكن ما شدني بالفعل من ذلك الركن هي صورة قديمة تجمعه في الكراج مع بعض عمال الميكانيك الفلسطينيين الذين كانوا يعملون في المملكة وكان يتحدث عنهم كما يتحدث الأب عن أولاده حينما كان يشير إليهم هكذا: هذا علي من يطا في فلسطين سافر إلى كندا وهذا زهدي من طولكرم توفي وهذا (ناجي) سافر للكويت وأصبح رساماً مشهوراً وهنا قفزت كالملدوغ وتأملت الصورة فإذا هو صديقي الفنان الراحل ناجي العلي ما غيره.

وهنا سألت الميكانيكي المتقاعد العجوز إلى متى تعود هذه الصورة فقال لي أعتقد أنها في الستينيات الميلادية (ما أذكرش بالضبط) فقلت له مردفاً وماذا تعرف عن ناجي حينما كان يعمل هنا؟ قال (ل شو بتسأل)؟ قلت له لأنه كان من أعز الأصدقاء في الكويت. وهنا ضحك وقال ناجي ما اشتغل معي مباشرة بل كان يشتغل مع واحد صاحبي كان بين كراجه وكراجي تعاون ميكانيكي ولكن كلنا أولاد بلد نعرف بعضا كويس فكررت السؤال وماذا تعرف عن ناجي حينما كان هنا: قال كان شغلو ميكانيكي بس فيه عادة مو منيحه. كان يستهلك الصبغ والدهان و(الرش) في كراج صاحبنا بشكل كثير ليرسم على الأبواب والجدران رسومات كاريكاتيرية (ما بتضحك) وكان الصبغ غالياً وصاحب الكراج لأنه يحبه يقول (خلوه على كيفه).




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد