Al Jazirah NewsPaper Tuesday  22/09/2009 G Issue 13508
الثلاثاء 03 شوال 1430   العدد  13508

وماذا نحن فاعلون في يومنا الوطني..؟!
د. حسن بن فهد الهويمل

 

حملة الأقلام من مستودعات الفكر وأوعية الثقافة كأجهزة الرّصد الحساسة تحرِّكهم تقلُّبات الطقس بكل صُعُده السياسية والثقافية والاجتماعية وحتى الدينية محلياً وعالمياً، وتحفزهم للمبادرة عوارض الطبيعة فينطلقون...

...في كل اتجاه ويجالدون على كل جبهة، ويتهافتون صوب كل قضية، ويتحسّسون عن كل رؤية يتفقّهون ويُفَقِّهون، وينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم، ومن خلالهم يحسّ الآخر بنبض البلاد واتجاهات الريح، وعلى ضوء لغطهم يرتِّب آلياته ووسائله ويصوغ خطابه ويلقي بحباله وعصيه للكسب أو للدفع أو للاحتواء، وتلك سنّة الله في خلقه القائمة على التداول والتدافع، ووطن يسبق ظله لابد أنه يفعم المشاهد كلها ويشغلها بكل مثير ليظل الكتبة في شغل شاغلين يصيب بعضهم المحز وتطيش سهام البعض الآخر.

والأمم في النهاية مقامات ومستويات في سلّم الحضارة أو في دركات التخلف، والعقلاء من يرتقون إلى ذرى أمتهم وتأتي عزماتهم على قدرها:

(على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم)

ومتى تماهى الكاتب أو المتحدث مع سموق وطنه وأصبح في مستوى إمكانياته وحضوره في المحافل الدولية، أصبح بالإمكان التناغم والتفاعل والتألق وحسن الأداء ونبل الممارسة. أما حين تَقْصُر الخطى وتنكب النظرات ويسود الاشتغال بالثانويات، فإنّ الحياة تَضْوى وتتسع الفجوة بين وطن في الثريا وهمم في الثرى، والشاعر العربي يستنهض همم المغامرين بقوله:

(إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

فطعْم الموت في أمر صغير

كطعم الموت في أمر عظيم)

ولكل أُمّة همومها وأولوياتها ونبرة خطابها، فمن اتسعت خطاه في أرض ضيقة فهو كمن تقاصرت في الفضاءات الواسعة، ومبعث الجمال التناسق بين الأجزاء والتناغم بين الأصوات، ومناسبات الأمة حين تكون جماع أمرها تظل كالنهر المتدفق يجود بالجلال والجمال والحياة، ولابد أن يُحسب لمقاربته كل الحساب.

واليوم الوطني للمملكة ذروة سنام الأحداث الجسام التي أسهمت في تشكُّل هذا الوطن على ما هو عليه من تألُّق وتفوُّق وحضور مشرف في كافة المحافل الدولية، وأيام الأمم مفاتيح تاريخها، والأيام ظاهرة تاريخية حفل بها المؤرخون واحتفى بها التاريخ القديم والحديث. وكتابا: (أيام العرب في الجاهلية) و(أيام العرب في الإسلام) يحكيان تاريخاً مجيداً ويسوقان قصصاً رائعة ويتضمّنان أدباً رفيعاً، ولكنهما يكادان يقتصران على الأيام الحربية، أما يوم المملكة فهو يوم الحصاد، يوم الوحدة والوئام وجمع الكلمة، ولكل أمة تاريخها الحافل بأيامها المفرحة أو المترحة، وفي كل تاريخ لحظات مُضيئة وأخرى معتمة تسمّى بالأيام تذكِّر الناشئة بالانتصارات الساحقة أو بالهزائم الماحقة، ويوم المملكة كوَّة يطل منها الأبناء على عوالم الآباء، وليس هناك ما يمنع من أن تمتد الأنظار إلى أيام عصيبة وسعها تاريخ الجزيرة العربية في الأدوار الثلاثة التي مر بها الحكم السعودي للتعرُّف على ساعات العسر وساعات اليسر فالتاريخ ليس مشرقاً كله، والحياة محطات والناس معها إما معتبر متأمل يزن الأمور ويقوِّم الأحداث ويحاسب النفس على التقصير أو التسويف، أو غافل نسَّاء يرى كل شيء من سنن الحياة ومعطيات الطبيعة وكأنه ذلك المتكبر الجبار القائل: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}.

والمناسبات السعيدة حين تمر بالعقلاء تحملهم على مراجعة النفس ومساءلتها عما واجهت به هذه المناسبة، إذ ربما يكون العطاء استدراجاً وقد يبتلي الله أقواماً بالنعم، كما يبتلي آخرين بالنقم. والناس بين شاكر ذاكر أو صابر محتسب.

ونحن في بلادنا نخرج من مناسبة سعيدة إلى مناسبة أسعد والناس من حولنا تتخطّفهم الفتن، وتجتالهم الكوارث، وليس من المناسب والحالة تلك أن نكتفي بتمجيد من أجرى الله على يديه هذا الخير، وإن كان من الفضل معرفة الفضل لذويه، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، ولكن الأهم أن ننظر في شأننا كله، فالنعم كشوارد الإبل إن لم تقيّد بالشكر فرَّت. ولقد وجَّه القرآن الكريم إلى محققات الثبات والزيادة بقوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} وقال لآل داود وقد أنعم عليهم: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} وخوَّف بقوله: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.

لم يكن بودي في هذه المناسبة الوطنية السعيدة أن اتّشح برداء الوعظ والإرشاد، وإن كانت خيرية هذه الأمة مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه الحرص على ثبات هذا الوضع السوي الذي حرم منه خلق كثير. فاليوم الوطني الذي تمر ذكراه بنا كل عام هو البذرة التي انشقت عنها الأرض لتخرج هذه الدوحة الوارفة الظلال، لقد سقاها الآباء والأجداد من رجالات المؤسس بالعرق والدم، وذادوا عن حياضها بالنفس والنفيس، وتلقيناها منهم بجمال شكلها وعبق ريحها وطيب ثمرها، وكان حقاً علينا أن نكون في مستوى الحدث رعاية وتنمية ومحافظة، وامتثالاً لأمر المنعم المتفضل واستقامة على الحق، فالمواطنة فلسفة معقدة، ليست وقفاً على الحبِّ الجبلي، إنها خلال وُصف بها (موسى): القوة والأمانة، واتصف بها (يوسف) الحفظ والعلم، وتحت هذه الخصال ما لا يمكن تصوره من الممارسات الحميدة. وإذ تحولت المشاهد العالمية إلى غابات مُسْبِعة، يأكل فيها القوي الضعيف فإنّ مسؤولية الخلف تتضاعف، فحراسة الثغور لا تقل عن الحرث والتنمية، وثغور البلاد حسية ومعنوية.. ثغور الأرض وثغور الأفكار، واختراق الأجواء الفكرية ليست بأقل خطراً من اختراق الثغور الحدودية، وهاهم أبناؤنا وفلذات أكبادنا يتخطّفون من بين أيدينا، وهاهم يتسلّلون كالوحوش الضارية ليزهقوا الأنفس البريئة، ويخيفوا الآمنين، ويستهدفوا رجالات الأمن ليدمِّروا صماماته، وإذا ضاع الأمن فلا قيمة للحياة، إنّ الجوع والمرض يخصان المبتلى، ولكن اختلال الأمن يعم فهو كالوباء المنتشر، ومتى اضطربت الأفكار خارت العزائم وتنازع القوم وذهبت الريح.

وذكرى اليوم الوطني إن لم تذكِّرنا بما يجب علينا فوتنا على أنفسنا ما يجب لنا، ومن عادات الشعوب أنها في مناسباتها تضخم حقها وتصرف نظرها عما يجب عليها، والحياة السوية لا يمكن أن تأخذ وضعها الطبيعي إلاّ بالتعادلية.

إنّ واقعاً عربياً وإسلامياً وعالمياً يستدعي خطاباً يحمل في طياته عدة المواجهة لهذه الانكسارات:

(ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ

ونام عنها تولى رعيها الأسد)

والنوم لا يعني الغفلة ولكنه يعني استعمال آليات غير مناسبة ومواجهة غير متكافئة، والتصور بأنّ ما نحن عليه حق مشروع لا بديل له مؤذن بتفلُّت الأمور، كما تتفلّت الإبل من عُقُلِها.

وتذكر اليوم الوطني يستدعي رجالات قضوا نحبهم وفي مقدمتهم المؤسس طيَّب الله ثراه الذي خاض بحكمة وأناة معركتي: التكوين والبناء وكان موفّقاً في كلتيهما، ومن حق المؤسس ورجاله أن نفي بالعهد والوعد وأن نكون خير خلف لخير سلف، لا نفرط بهذا الكيان ولا نزايد عليه، وأن نحرص الحرص كله على وحدته الإقليمية والفكرية، ولاسيما أنّ العالم المنكوب تجتاله اضطرابات وتعبث به لعب سياسية، والطائفيات والعرقيات والإقليميات هي الوقود لهذه اللعب القذرة، وواجبنا أن نعي كل شيء وألاّ ندع الثغور الإقليمية والفكرية مكشوفة للمتربصين الذين يحسدوننا على ما أفاء الله به علينا: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} هذا الفضل يثير فضول الأشرار وما لم نكن في مستوى مسؤوليتنا أفسدوا علينا ديننا ودنيانا.

إنّ اليوم الوطني مناسبة سعيدة لمراجعة النفس وترتيب الأوراق وإصلاح ذات البين على كل المستويات.

والذكرى السعيدة تمر بنا هذا العام ونحن ننعم بانتصارات أمنية وإنجازات حضارية.

أربع جامعات جديدة، وافتتاح لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، ونجاة مساعد وزير الداخلية من مؤامرة دنيئة.

إنها مناسبة للمحاسبة والتذكُّر وتجديد العهد وشحذ الهمم، إذ لا مكان للاسترخاء ولا مجال للتسويف، ومن بطأ به عمله لم يسرع به ماضيه المجيد، فلتكن نشأة الفتيان فينا على ما كان عليه بُناة هذا الكيان، وهل نحن إلاّ أبناء وحفدة المؤسس ورجاله نتلقّى الراية كابراً عن كابر.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد