Al Jazirah NewsPaper Sunday  27/12/2009 G Issue 13604
الأحد 10 محرم 1431   العدد  13604
نوافذ
المادة لا تفنى
أميمة الخميس

 

تخبرنا قوانين الفيزياء بأن المادة لا تفنى ولا تستحدث، بل هي تظل في صيرورة أبدية من التحول والتبدل عبر عدد لا متناه من التشكيلات، ويبدو أن هذا القانون ينسحب على العديد من المناطق تجاوز الواقع المادي لتصل إلى الحياة الروحانية للإنسان.

يشير عالم الأنثربولوجيا الشهير جيمس فريزر في كتابه (الغصن الذهبي) بأن الحضارة الزراعية حول النهرين في سومر، كان تعكس في طقوسها الدينية تماهياً مع مظاهر الطبيعة من حولها، فالعقلية الزراعية القديمة آنذاك أنسنت مظاهر الطبيعة من حيث شبهت النبات بمراحل حياة الإنسان حيث حالة الحمل وكمون شتوي, ثم انبثاق وبهاء شباب ربيعي, فاكتمال ونضج صيفي وموسم قطاف المحاصيل, وأخيراً ذبول وشيخوخة خريفية، وكل هذا كان يؤنسن عبر أسطورة أنانا (عشتار) وتموز إله الخصب السومري الذي كان حين يختفي في العالم السفلي تجف وتشحب المخلوقات، فتمضي أنانا وقتها في البحث عنه لاسترجاعه، ويشاركها طقس اللطم والنواح جميع سكان المناطق الزراعية، إلا أن يبعث في قيامة سنوية من ظلمة العالم السفلي فتعم الاحتفالات الربيعية المكان تلك الأعياد التي مازالت مظاهرها باقية إلى اليوم الحالي كعيد النيروز الفارسي أو عيد الفصح المسيحي أو شم النسيم المصري.

أيضاً يذكر في السياق نفسه المفكر فراس سواح في كتابه (لغز عشتار) عن علاقة أكيدة تربط بين مراسم النواح والبكاء واللطم السنوي على الحسين رضي الله عنه، كونها تغور عميقاً في التاريخ لترتبط بمراسم النواح السومري لمشاركة أنانا نواحها على فتاها الأخضر الوسيم الذي اختطف للعالم السفلي. بل إن الدماء وتجريح الجسد تشارك الطقس كنوع من الافتداء.

ومن هنا نصل إلى أن الأسطورة لا تفنى ولا تندثر، فأسطورة تموز السومرية استطاعت أن تبقى على قيد الحياة بعد صيرورة من التحولات انتهت بها أن اتخذت لها حلة إسلامية في شخص الحسين رضي الله عنه، وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء الجنة وميدان المعركة الذي يحوى دماء الشهيد الذبيح في كربلاء.

قوانين عريقة لها هذه القوة والثبات والتجذر والقدرة على الديمومة عبر آلاف السنين، لا نستطيع أن نلغيها وأن نجرمها ونحجبها عن الوجود بجرة قلم، لأنها تشارك في نسيج الحياة الروحية والثقافية لسكان منطقة بلاد الرافدين وما جاورها، وركامها التاريخي من الطقوس والشعائر والممارسات الدينية جعل من المستحيل زحزحتها من الوجدان الشعبي كونها باتت تمثل هوية روحية لسكان تلك المناطق.

يبقى لنا أن نرقبها ونتأملها بحس حيادي مقدر ومحترم لاختلافات الآخرين وتنوعهم، وعراقتهم الفكرية، نتأملهم عن كثب.

فالمادة لا تفنى بل تغير أرديتها فقط.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد