Al Jazirah NewsPaper Tuesday  19/01/2010 G Issue 13627
الثلاثاء 04 صفر 1431   العدد  13627
 

وما الحل لهذا الوضع المأساوي؟
د. حسن بن فهد الهويمل

 

تناقلت وسائل الإعلام وصف الأمير سعود الفيصل للوضع العربي بالمأساوي، وإن ربط المأساوية بما تتعرض له قضيتهم الأولى من تمييع وتضييع، ورجل مثله في عراقته السياسية وخبرته العملية

وجلده في المهمات الصعبة خبير بما يتحدث عنه والقول ما قال (ولا ينبئك مثل خبير).

ووصف سموه الوضع بالمأساوي قائم في الواقع وفي الأذهان وهو واضح لكل ذي عينين وضوح النهار الذي لا يحتاج إلى دليل:

وليس ينفع في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

وليست الإشكالية في أن يشهد سموه بما علم، وإنما هي في التوفر على إمكانيات الخروج من ذلك الوضع المأزوم بأسرع الأوقات وأقل الخسائر.

والوضع المأساوي الذي بلغت الأمة العربية دركه الأسفل في كل قضاياها وأحوالها فضلاً عن قضيتها الأولى لم يكن وليد لحظة زمنية ولا ناتج خطيئة واحدة ولا مقترف فرد واحد. بحيث يُطَوّق زماناً ومكاناً وإنساناً.

ولكنه ناتج ترديات وإخفاقات وجنايات متلاحقة تمتد عبر الأزمنة والأمكنة والأناسي، والتصدي لوضع كهذا لا يحسمه الاهتياج الأعزل ولا الكلمات المعسولة ولا الوعود السرابية. كما لا يتوقع له الحسم الفوري، ومن زايد على شيء من ذلك فقد أسهم في مزيد من الارتكاس. وسمو الأمير حين يُذكِّر بمعلوم يود أن تنفع الذكرى، وأن يلامس تذكيره آذاناً تتكئ على نخوة (المعتصم)، وأمله أن تتخطى الأمة أجواء الإحباط واليأس والتردد إلى آفاق التفكير الجاد والمنظم بالخلاص من عقابيل تلك الأوضاع، على أنه لا خلاص بدون إدراك حقيقي للذات العربية بكل ما هي عليه. فالمريض حين ينطوي على علته أو حين يختلف الأطباء في تشخيصها يقع تحت طائلة التخرصات وقد يسهم التشخيص الخاطئ في مضاعفة العلة، والخطوة الأولى في سبيل الخلاص تتمثل في إدراك العلل على حقيقتها وبحجمها الطبيعي، واتخاذ الإجراءات المناسبة لها وفق الإمكانيات المتاحة، فما كل مرغوب مستطاع، وما كل رؤية ممكنة وما أضر بالأمة إلا المثاليات والعنتريات والاحتياجات الرعناء وممانعات المزايدة وكسب الغوغاء بالهتافات غير المسؤولة وغير المسنودة ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه وأتى ما يستطيع وتعهد إمكانياته بالتطوير وهممه بالشحذ، وما لا يدرك كله لا يترك كله، والأميال تقطع بالخطوات، والأودية تملأ بالقطرات، وقبل ذلك وبعده لابد من التغيير والتطوير والتوفير: تغيير ما في الأنفس والله الذي لا يسأل عما يفعل تعهد بذلك، وتطوير الإمكانيات المتاحة مهما كانت ضئيلة وتوفير الأجواء الملائمة للممارسة المنضبطة فلكل خطوة ضوابطها وقواعدها ومساراتها، ولن يتحقق الخلاص بالتفرد ولا بالأثرة وإنما تبدو بوادره بروح الفريق الواحد والإيثار وإنضاج القضايا بالتشاور والتحاور وتصفية الخلافات الوهمية والحقيقية وبث الثقة وتكافؤ الفرص وتداول السلطة واعتماد الشفافية وتماسك الجبهات الداخلية والتوفر على متطلبات العيش الكريم لكل مواطن، فالخوف والجوع وكبت الحريات ومصادرة الحقوق حواضن للفساد والتمرد وإجهاض المشاريع، فالإنسان أولاً ثم الوطن ثانياً إذ بدون الإنسان السوي لا يكون وطن سوي.

والقارئ للتاريخ الثوري العربي يقف على خطيئات محبطة وخطابات سرابية ووعود عرقوبية وعنتريات فارغة وخبط عشوائي في مفازات مهلكة حولت الأرض العربية منذ ستة عقود إلى حقول تجارب فجة لمبادئ ومذاهب وتيارات: قومية واشتراكية وبعثية وعلمانية و(ليبرالية) أريقت من أجلها الدماء وأحرقت الأرض وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، واستخف بالعلماء واستهزئ بالدين واغتيلت الحريات ونهبت الثروات ولم تتجاوز الكلمات المعسولة حناجر المأجورين يتبادلها المتداولون للسلطة، وكلما دخلت أمة ثكنات القيادة خونت أختها وظلت الشعوب المغلوبة على أمرها تدفع الثمن من كرامتها وأمنها وحريتها.

وبعدما أثخنوا في الأرض وأشاعوا الإحباط واليأس هدأت الأمور ولكن بعدما خربت مالطة، وحتى فقدت الثقة واجتاح الشك والارتياب نفوس المدنفين وكشفت ثورة الاتصالات وتعدد القنوات واختلاط الحابل بالنابل عوار الأنظمة وأوضاع الشعوب دخل الأقوياء المتربصون بدعوى ترميم الكيان العربي وهم قد بادروا إلى تمزيقه إقليمياً عبر اتفاقية (سايكس بيكو) متوسلين لتكريس الفرق بتنويع الأحلاف والمصالح، ثم أتبعوا التقسيم الإقليمي تقسيمات فكرية وحزبية وثقافية وطائفية وقبلية، وناتج ذلك إشاعة العداوة والبغضاء والتفاوس باللسان والسنان، وفوق ذلك كله أصبحت الدول العربية مجالاً للصراع العالمي ومسرحاً لتنفيذ اللعب السياسية وميداناً لتصفية الحسابات والثارات القديمة وسوقاً رائجة للأسلحة التقليدية، وجاءت الطامة الكبرى (إسرائيل) بكل ما تنطوي عليه وتعج به من كيد دفين وعداوة في الدين لتكون خنجراً في خاصرة الأمة، ترقب التحركات، وتضرب المبادرات، وتحوك المؤامرات، وتوقظ الفتن النائمة، ولقد بلغ إيذاؤها حداً لا يطاق وأصبحت مماطلاتها لا تحتمل مستخدمة الزمن مستثمرة للأوضاع العربية والفلسفية لتحقيق أهدافها التوسعية ولم تزد هذه الأوضاع المأساوية بعض القادة العرب إلا تقرباً منها وتنازلاً لها وتودداً إليها، وأخطر شيء تواجهه الشعوب العربية اختراقاتها للأجواء وانتزاعها الشرعية حتى لقد امتد الداء العضال إلى المشردين من أبناء فلسطين حيث انشقوا على أنفسهم واحتربوا فيما بينهم وقسموا انتماءاتهم بين دول عربية وأخرى أجنبية وأصبحت الأمة مشروع أندلس جديد وعادت دول الطوائف يستعدي بعضها على بعض ويعتدي بعضها على بعض، وبلغت أوضاعها الدرك الأسفل حين قامت الصراعات الداخلية والحروب الأهلية وأصبح الحزب أو الطائفة أو القبيلة داخل الدولة يمثل حكماً ذاتياً لا يدين أفراده بالولاء لا للدين ولا للوطن وإنما يدينون بالولاء لرئيس الطائفة أو الحزب أو القبيلة، ومثل ذلك مرهص لتمزق الكيان الواحد إلى كيانات ضعيفة متناحرة تسهل السيطرة عليها واستخدامها لضرب الخارجين على الإرادة المتسلطة، ولقد دخلت بعض الدول العربية أنفاقاً مجهولة المصير بحيث لا تدري ماذا ينتظرها فهي بين تقسيم طائفي أو إقليمي أو قبلي أو احتلال أجنبي لا يرقب فيها إلا ولا ذمة.

وهل أحد يتصور فداحة المصير المرتقب الناتج من مثل هذه الأوضاع المأساوية.

إن الأمة العربية في راهنها تعيش حالة من الذهول قد يصل حد انشغال كل مرضعة عما أرضعت.

إن حروباً داخلية وصدامات حدودية وخلافات على قضايا مشتركة أدت إلى طريق مسدود ومع استحكامها وشدتها فإن بريقاً من الأمل ورسيساً من التفاؤل يفتح نفقاً قد ينفذ منه العقلاء لتدارك الأمة قبل أن تفني نفسها بنفسها.

ولرب نازلة يضيق بها الفتى

ذرعاً وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها

فرجت وكان يظنها لا تفرج

فالحروب والصراعات والصدامات دروس عملية لمن ألقى السمع وهو شهيد، يجب علينا جماعات وأفراداً وحكومات أن نعيها وأن نبحث عن أسلوب بديل مثلما بحثت أوروبا ودول أخرى وقفت أمام خيارات متعددة فكان خيارها السلام والوئام وطي صفحات الماضي بكل مآسيه، والدين الإسلامي ندب إلى الجنوح إلى السلام، ومكن الأمة من عدة خيارات تأتي المواجهة العسكرية في آخرها، فإصلاح ذات البين أولاً، والإصلاح لا تراق فيه الدماء ولا تدمر فيه الأشياء، والأمة بوضعها الراهن أحوج ما تكون إلى مراجعة واعية لحساباتها وتفكير جاد بمصائر شعوبها.

والعقود الستة المأساوية بكل المقاييس كافية لمراجعة النفس وتدبر الأمر ومن ذا الذي لا يتعظ بالنكسات وهل واقع الأمة يسر؟

إن على القادة والمجالس النيابية في الدول العربية أن يتأملوا ما عليه الشعوب من يأس وإحباط وقنوط وخوف من المصير المجهول.

إذ لا يمكن تفادي الأوضاع بتمسك كل دولة بآرائها ومواقفها وذهاب كل حزب أو طائفة أو قبيلة بما يرون، لابد من التنازلات ولابد من بث الثقة والاطمئنان، فالخوف من الجار يستدعي التأهب وأخذ الحذر.

إن على الدول العربية بكل طوائفها وأحزابها وقبائلها أن تضع سقفاً للخلافات بحيث لا تتجاوز به موائد المفاوضات ومتى اطمأنت الدول من بعضها وأحست أن المصالح مشتركة وأن المصير واحد تجاوزت مرحلة الشك والتوتر وأقبلت على بعضها بنوايا حسنة ومقاصد سليمة، ويكفي من الآيات والنذر تلك الأدوار المخيفة التي تلعبها إيران في المنطقة وهي أدوار مكشوفة تجد من يقبل لعبها ويهيئ لها الإمكانيات للتدريب والتمويل والتخطيط ووضع كهذا يتطلب المكاشفة والمصالحة والعمل على تحييد أي مستغل خارجي للأوضاع المتردية وما ذلك على همم المخصلين الصادقين بعزيز.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد