Al Jazirah NewsPaper Thursday  11/02/2010 G Issue 13650
الخميس 27 صفر 1431   العدد  13650
 
فيض الضمير
مرت ذكراه في صمت
عبده بدوي عاشق السودان.. قلب إفريقيا الحنون (2-3)
محمد أبو بكر حميد

 

في أوائل 1955م وصل عبده بدوي إلى السودان لأول مرة تلتها مرات ومرات، إذ لم تنفرج العقبات عن طريقه، فقد اشتاقت نفسه للسفر إلى السودان فلا يمكن أن يكتب بحثاً عن السودان دون أن يزور السودان، فاعترضه نظام التعليم في مصر الذي يقضي على الخريج أن يعمل لعدة سنوات في الوطن قبل السفر.

ولكن سرعان ما تُذلل عقبات الطريق إلى إفريقيا عبر السودان، فقد سخّر الله له من ييسر له أمره، وكان في هذه الفترة قد تعرف على الأستاذ فتحي رضوان - الوزير في حكومة الثورة آنذاك - الذي قدَّر له شاعريته وجديته في خدمة وطنه.

ومنذ ذلك التاريخ عشق عبده بدوي السودان ودلف من بابها إلى حب إفريقيا الخضراء فكان السودان عشق قلبه وإفريقيا جنة دنياه، فحصل على الماجستير سنة 1961م وكان كتابه الضخم «الشعر الحديث في السودان» أصدره المجلس الأعلى للفنون والآداب بمصر سنة 1964م في أكثر من 700 صفحة، حيث يُعدُّ هذا الكتاب إلى الآن من أهم المراجع الأصيلة للشعر في السودان بما فيه من شمول وعمق وإنصاف، وأصبح اللون الأسود في شعر عبده بدوي ودراساته رمزا في القلب للإشعاع والنقاء ورمزا في الحضارة للعطاء والنماء، فلا عجب أن يكون موضوعه للدكتوراه التي حصل عليها سنة 1969م «الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي» الذي صدر في كتاب يقع في حوالي 400 صفحة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1988م. ورغم أنه حصل على الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى إلا أنه لم يجد مكاناً يتسع له في القاهرة، فقد كان البوم يلاحقه ويُضيِّقُ عليه الخناق، وكان كما يقول يطلق صرخاته في أكثر من مكان كالسفن التي تغرق، وكان يُطارد في القاهرة لاختلاف لونه الفكري عن الألوان السائدة، وللمرة الثانية يجد السودان يتسع له حين ضاقت به بعض الصدور في القاهرة، ووجد الخرطوم تفتح له ذراعيها مرحبة، فيذهب إلى هناك ويعمل بالتدريس في جامعتي أم درمان والخرطوم.

وقد ظهر وفاء عبده بدوي للسودان وشعبه الحبيب في كل دواوينه، فلا يكاد يخلو ديوان من ذكر السودان أو إفريقيا، فالإنسان الأسود شديد الحضور في شعره تضيء به الحروف، وتميل نحوه العاطفة، ويشد القلب إليه الرحال، فالسودان بحق عشق عبده بدوي وحبه الأول، فلا عجب أن يهدي ديوانه الأول «شعبي المنتصر» 1958م للشعب السوداني بقوله:

«إهداء.. إلى الجباه المرتفعة في إصرار تحت شمس السودان الحبيب»، ولا عجب أن تكون أول قصيدة في ديوانه الأول عن السودان بعنوان «بلادي»:

من السودان حيث أعيش بين حدائق الشمس

وحيث أشد شعر الظل في جزعٍ على رأسي

أمدُّ العمر ملهوفاً على ماذاب من يأسي

وتتألف في هذا الديوان عدة قصائد للسودان وإفريقيا، فنجده يفخر بالإنسان الأسود:

قد غطى الأفق بقامته

وامتد بجانب حربته

ومشى يختال بسمرته

بمساءٍ نام بطلعته

وفي قصيدة بعنوان «التوب» الزي الوطني بالسودان يقول متغزلاً:

رفَّتْ بالتوب المنفعل

كنشيد غرد لم يطل

ثم يخاطب الإنسان السوداني بعاطفة وطنية حارة فيقول في قصيدة بعنوان «إلى أخي في السودان»:

أخي يا موسم النور الذي ينبض بالرزقِ

ومن ألقاه في صدري حنيناً أخضر الخفق

أخي يا صحوة التاريخ في قلبي وتفكيري

أساطيرك تحت الليل ما زالت أساطيري

وفي قبلتك السمراء تلقاني بتكبيري!

تعال نشق قلب الظلم عصياناً وبركانا

ونكسو أرضنا الخضراء أوراقاً وألحانا

ويهيم عبده بدوي حباً بالخرطوم ويتغنى بجمالها في الصباح والمساء، ويستعيد ذكرياته فيها التي يراها أجمل ذكريات حياته في قصيدة تحمل عنوان «مدينة الخرطوم» يقول:

تغدين في جزع الظهيرة ماسة في كأس نور

ومع المساء شراع حبٍ صاعدٍ فوق العبير

ثم يقول عن شعبها العزيز الأبي الذي يرفض الظلم، ويدافع عن حقه بشموخ فيخاطب الخرطوم قائلاً:

علّمتِ شعبك أن يعزّ فمس أطراف السماء

ومضى تُعمِّمه الأشعة كالصباح على المساء

كم وقفةٍ في «ملتقى النيلين» هزت كبريائي

وتمددت في خاطري شعراً وغاصت في غنائي

فحسبتني في موطني فرحان مشبوب الدماء

وبكيت دمعاً باسماً لما تشابهت المرائي

الحبيبة السمراء:

ويهدي عبده بدوي ديوانه الثاني «باقة نور» 1960م إلى إفريقيا الحبيبة إلى قلبه فيقول: «إلى القارة التي أعيش بضوئها وحبها، والتي أحسُّني على بابها برمح وإصرار.. إلى إفريقية..». ومثلما كرَّس ديوانه الأول للسودان كرَّس ديوانه الثاني للقارة التي يقع السودان منها موقع القلب، فكانت معظم قصائده عن إفريقيا، ولكن لا بد أن يكون للقلب الحضور لتدب في الجسد الحياة، ولا حياة في جسد إفريقيا بدون السودان في نظر عبده بدوي، فها هو يضمن هذا الديوان قصيدة تحمل عنوان «ذكريات الخرطوم» وسنجد أن الخرطوم متكررة في دواوينه جميعاً كالنجوم التي تضيء في السماء. فلا عجب أن يتألف بحنينه إلى الخرطوم:

سمراء ما زال الحنين إليك مشبوب الفكر

وعلى جبين من حنانك راحة ظلت تمرُ

وبقية من ذكريات عالقات بالبصر

ويمضي يتغنى بالإنسان والطبيعة والطيبة التي تميز بها الشعب السوداني الحبيب إلى أن يقول:

في هذه الأرض السخية عشت عمراً مُخصباً

أسرعت خلف غزالها حتى تدامى مُتعباً

وسمت «دوبيتاً» تغنى باللقاء ورحبا

وعلى صدى «دلوكة» ألفيت عمري واثبا




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد