Al Jazirah NewsPaper Wednesday  10/03/2010 G Issue 13677
الاربعاء 24 ربيع الأول 1431   العدد  13677
 
العقل وعينه الجديدة
فرانك ويلتشيك

 

تشير علوم الفيزياء والكون الحديثة إلى أن الحقائق الأساسية حول كيفية عمل الطبيعية، وكيفية نشوء الكون ليست مرئية إلا لهؤلاء الذين يمتلكون القدرة على رؤية الأحداث التي تقع بشكل أسرع من الزمن الذي يستغرقه الضوء في عبور البروتون، والذين يسمح لهم بصرهم بتحديد المسافات داخل نواة الذرة. ومن حسن الحظ أن هذا لا يستبعد البشر، ذلك أننا قادرون على تعزيز قوة إبصار الأعين التي ولدنا بها.

والواقع أن مُعَجِّل الجسيمات التصادمي (مُصادِم الهيدرونات الكبير) يرقى إلى هذه الفرصة. فمن خلال صدم البروتونات ببعضها بعضا بالاستعانة بكم غير مسبوق من الطاقة، ومراقبة الجسيمات العديدة الناشئة عن هذا التصادم، وإعادة بناء الأحداث الرئيسية التي أنتجت هذه الجسيمات، سوف يتمكن الفيزيائيون في واقع الأمر من بناء الميكروسكوب (المجهر) الأسرع والأشد وضوحاً على الإطلاق، حيث يعمل كل بروتون على التقاط صورة سريعة للبروتون الآخر من الداخل.

إن معجل الجسيمات التصادمي يشكل مشروعاً هندسياً بديعاً، والواقع أن أعاجيبه العديدة باتت مشهودة على نطاق واسع. ولكن دعونا من كل هذا ولننتقل إلى الجدوى المنتظرة من مشروع كهذا.

إن هذه الأداة سوف تمكننا من رؤية الكون حين كان عمره بضعة آلاف من الثواني، في اللحظات الأولى من الانفجار الأعظم. وتشكل الأحداث الرئيسية في معجل الجسيمات التصادمي في واقع الأمر انفجارات مصغرة، أو كرات نارية ضئيلة تعيد تكوين ظروف الانفجار الأعظم، ولو بمقادير بالغة الضآلة.

إن المادة المظلمة ليست في الواقع مظلمة بالمعنى المعتاد، بل إنها شفافة تماماً. وهي لا تعكس الضوء ولا تمتصه، ولهذا السبب فقد فشل الفلكيون في ملاحظتها لآلاف السنين، رغم أن المادة المظلمة تشكل خمسة أمثال الكتلة الكلية للمادة الطبيعية التي يحتوي عليها الكون. وفي أواخر القرن العشرين فقط تسنى لنا بفضل الدراسة المتأنية لحركة المادة الطبيعية المرئية أن نكتشف التأثير الجاذب للكثير من المادة التي ما كنا لنستشعر وجودها لولا قوتها الجاذبة.

ولأن الانفجار الأعظم الأصلي أنتج المادة المظلمة، فإن الانفجارات الضئيلة التي يحدثها معجل الجسيمات التصادمي قد تنتج المزيد من هذه المادة. لذا فإن القائمين على إجراء التجارب سوف يبحثون عن جسيمات جديدة تتمتع بالخصائص المناسبة لإنتاج المادة المظلمة الفلكية: التي تتسم بطول العمر والتفاعل البالغ الضآلة مع المادة العادية أو الضوء. وهذا يعني وجود احتمالات لا يستهان بها لتعرفنا على المزيد عن هذه المادة المراوغة رغم توفرها في كل مكان من الكون.

ولنتخيل معاً أن نوعاً من «الأسماك الذكية» بدأ أفراده في التفكير بعمق في أحوال العالم. كانت أسلاف هذه الأسماك تتعامل لعدة آلاف من السنين مع بيئتها المائية باعتبارها من الأمور المسلم بها؛ فكانت في نظرها تشكل «فراغاً» كأي فراغ آخر يمكنهم إدراكه. ولكن بعد دراسة بعض الآليات والاستعانة بقدر أعظم من الخيال، أدرك «علماء الفيزياء» بين أفراد هذا النوع من الأسماك أنهم قادرون على استنتاج قوانين أبسط كثيراً للحركة إذا ما افترضوا أنهم محاطون بوسط يعمل على تعقيد مظهر الأشياء (الماء!).

نحن تلك الأسماك. فقد اكتشفنا أننا قادرون على التوصل إلى مجموعة أبسط كثيراً من المعادلات المرتبطة بالفيزياء الأساسية من خلال افتراض مفاده أن ما ننظر إليه عادة باعتباره فراغاً هو في الواقع عبارة عن وسط يحتوينا. ولقد راقبنا تأثيرات «المياه» التي نستخدمها لتبسيط معادلاتنا - فوجدنا أنها تبطئ من سرعة الجسيمات وتزيد من وزنها - ولكننا لا نعرف ماهية هذه المادة أو مم تتكون.

وسوف يتيح لنا معجل الجسيمات التصادمي تمييز البنية الميكروسكوبية (المجهرية) لهذا الوسط الكوني. والفكرة الأبسط هنا تتلخص في أن هذه المادة تتألف من نوع جديد من الجسيمات، أو ما نطلق عليه «جسيم هيجز»، ولكن في اعتقادي أن الأمر يشتمل على ما هو أكثر من ذلك. (فقد يحصل المرء على معادلات أجمل كثيراً بإضافة خمسة جزيئات جديدة، بل وربما يكون هناك ما هو أكثر من ذلك).

في ستينيات القرن التاسع عشر نجح جيمس كليرك ماكسويل في تجميع المعادلات الخاصة بالكهرباء والمغناطيسية، فاكتشف نوعاً من التضارب. ولكنه عمل على إصلاح هذا التضارب من خلال إضافة أطراف جديدة إلى المعادلات.

ولقد وصفت المعادلات المضافة التي تعرف اليوم بمعادلات ماكسويل، نظرية موحدة للكهرباء والمغناطيسية، فأظهرت المعادلات الجديدة أن الضوء عبارة عن اضطراب متحرك ذاتي التجدد في المجالات الكهربائية والمغناطيسية، كما توقعت هذه المعادلات احتمال وجود أنواع أخرى من الاضطرابات.

واليوم نطلق على هذه الاضطرابات موجات الراديو، والميكروويف، والأشعة تحت الحمراء، والأشعة فوق البنفسجية، والأشعة السينية، وأشعة جاما، ونستخدمها في الاتصالات، وطهي الطعام، وتشخيص وعلاج الأمراض. لقد قادتنا النظرية الموحدة للكهرومغناطيسية إلى تطورات عميقة في كافة العلوم الفيزيائية، من الفيزياء الذرية (حيث تشكل أجهزة الليزر ومضخمات الموجات القصيرة أدوات أساسية) إلى علم الكون (حيث تشكل إشعاعات الميكروويف في الخلفية نافذتنا على الانفجار الأعظم).

إن فهمنا الحالي للفيزياء قوي ودقيق إلى أبعد مدى ممكن، ولكنه ليس جميلاً ومتماسكاً كما ينبغي له أن يكون. والواقع أننا لدينا معادلات منفصلة لأربع قوى: قوية، وضعيفة، وكهرومغناطيسية، وجاذبية. وهذا الخليط يذكرنا بالمعادلتين المجزأتين للكهرباء والمغناطيسية قبل ماكسويل.

اقترح بعض العلماء معادلات موسعة تعمل على توحيد القوى المختلفة. وهذه المعادلات الموسعة، التي تشتمل على فكرة التجانس الفائق، تتوقع العديد من التأثيرات الجديدة. ولقد لاحظنا بعض هذه التأثيرات بالفعل (على سبيل المثال: تكتلات ضئيلة من النيترينو وتوحيد الازدواج). ولكن كما لاحظ كارل ساجان، فإن إثبات المزاعم غير العادية يتطلب أدلة غير عادية. غير أن الأدلة المتاحة لدينا حتى الآن ما زالت أدلة ظرفية.

من حسن الحظ أن هذه الأفكار الجديدة لتوحيد المعادلات تنبئنا بإمكانية مشاهدة أشياء غير عادية بالاستعانة بمعجل الجسيمات التصادمي. وإذا كان الأمر كذلك فسوف نتوصل إلى اكتشاف عالم جديد كامل من الجسيمات: حيث في مقابل كل جسيم معروف حالياً هناك جسيم آخر أثقل يتسم بخصائص مختلفة ولكن يمكن التنبؤ بها.

هذه هي آمالي وتوقعاتي بالنسبة لمعجل الجسيمات التصادمي. ولكن هناك تكهنات أخرى لما قد نتمكن من إبصاره من حولنا؛ وهي تتضمن أبعاداً إضافية للفضاء، وسلاسل منظومة بدلاً من الجسيمات المتفرقة، وثقوب سوداء صغيرة. ومن المرجح أن يتجاوز الواقع كل قدراتنا الإدراكية.

*فرانك ويلتشيك أستاذ الفيزياء بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
«خاص الجزيرة»



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد