Al Jazirah NewsPaper Tuesday  30/03/2010 G Issue 13697
الثلاثاء 14 ربيع الثاني 1431   العدد  13697
 
وما ظلمت (بدوي) ولكنه ظلم نفسه..! 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل

 

عندما أبَّنت المفكر العربي الكبير (عبدالرحمن بدوي) بعد وفاته وقلت فيه وعنه ما أراه من خلال قراءة معمقة لطائفة من كتبه التي تُعَد جماع شأنه الفكري والمعرفي...

... وجدت من ينقم عليَّ ما ذهبت إليه.

والمعتدلون من المعارضين يحيلون ما يرونه في كتابتي عنه من الحيف إلى سلفيتي التي لا تتفسّح في مجالسها للفلسفة على حد زعمهم، والقاسطون يدَّعون أنني متقحم عوالم بدوي اللجِّية بإمكانيات ضعيفة، ولست مُبْتئساً مما يقوله هؤلاء وأولئك، فالحياة تقوم على تجاذب الآراء، وكل فئة تبحث عما يوهن الفئة الأخرى، وما من عاقل سوي مجرّب يحاول إنهاء الصراع ولا احتواءه لصالحه، ولكن الحوار السديد المفيد هو الذي يقوم على المعرفة والمصداقية ووضوح الرؤية وقوة المنهج ودقة الآلية والبحث عن الحق بوصفه ضالّة المؤمن، وحبس الجدل في محيط القضايا وتفادي النَّيل الشخصي ومصادرة حقوق الآخرين على حد: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ومن أراد المصالحة سوى بين الأطراف في القضية المختلف حولها وإن استقر في ذهنه أو في الواقع أنه الأحق مما سواه، مثلما فعل (يوسف) عليه السلام مع إخوته الذين اعتدوا عليه وظلموه وعقَّوا أباهم، وذلك حين قال: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} إذ لم ينلهم بسوء، وإن أذَّن مؤذن في العير إنهم لسارقون، مع أنهم لم يسرقوا فهو الذي وضع صواع الملك في وعاء أخيه لكي يستبقيه عنده لحكم إلاهية، وأحسب أنّ ما فعل به وما عرض له كفعل العبد الصالح مع (موسى) عليه السلام الذي قال في النهاية: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}.

وما قلته في المقال التأبيني (فيلسوف الموت يموت) المنشور في جريدة الجزيرة يوم 6-8-2002م مستخلص من أبرز كتبه وما كتب عنه وبالذات ما كتبه في سيرته الذاتية (سيرة حياتي) العنيفة التي لم يترك أحداً من شوامخ الفكر والأدب إلاّ حطّ من قدره ونال من مكانته، ومن آراء المنصفين الذين تعقبوا آراءه وأفكاره وأخلاقه وبخاصة زميله في الكويت (فؤاد زكريا) الذي يُعًد من تلاميذه وأنداده في آن، ولقد كنت على بينة من (الوجودية) التي يتولّى كبرها، قرأت لأساطينها المتعالقين معها وخصومها النافرين منها، ولأنه يعد نفسه الوجودي العربي الأميز، فقد كنت على علم بما ينطوي عليه وإذ تكون الوجودية ذات شقين:

- إيمانية.

- إلحادية. فقد عايشها كمفهوم واحد ولم يشأ أن يفرق بين مريديها بل كان وجهه يتمعر من أي كاتب يمس أحداً من رموزها الغربيين بسوء، على أنّ شقها الإيماني لم يكن على سنن الإيمان الإسلامي، ولكنه إيمان بالقدرة المطلقة التي تحكم هذا الكون وتديره، وإذ كفر الذين آمنوا بالله على غير مراده فإنّ هذا الشق لا يمكن أن يزحزحه أحد عن هذا الصنف من الفئات، والذين يتعاطفون معه، ويرون أنه مظلوم وأنه لم يعط المكانة التي تليق بمثله يفوتهم أنه كان من أكثر المفكرين تذمراً وبرماً من المشاهد كلها، ولقد كانت ردود الأفعال عنده عنيفة حتى أنه فقد احتشامه وسمته ووقاره ودخل دائرة التهريج والتجريح الذي لا يليق بمثله.

وبدوي من ذلك الصنف الذي فتح الأبواب كلها وأذاب الحدود، وأجهض سلطة النصوص، ولم يكتف بذلك بل شنع على السلفيين احترامهم لها وتقييد أنفسهم بمقتضاها وحرصهم على تجويد العلاقة معها، فهم الذين استثمروا علم الجرح والتعديل لتجويد الرواية والتمييز بين الصحيح والضعيف، وهم الذين استعملوا أصول الفقه الذي يمثل مجموعة القواعد والضوابط التي يستعان بها على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها الوضعية أو المجازية أو السياقية، ولولا ذلك ما استطاع أحد أن يفرق بين الأركان والواجبات والمستحبات والمحرمات والمكروهات، ولا أن يعرف الناسخ من المنسوخ والعام من الخاص ولا أن يجمع بين المتعارضات، وهم قد توغّلوا حتى فرّقوا بين أصول الفقه وعلم الفقه، كما فرّقوا بين علماء التفسير والحديث والفقه وأصول تلك العلوم، فكان النص التشريعي عندهم بمأمن من العبث أو التأويل الفاسد أو الكذب، وهم الذين فرّقوا بين عالم الغيب وعالم الشهادة وعلمهما، وأجازوا التأويل في المعلوم إذا اقتضى الواقع ذلك ومنعوه في المجهول، ومن ثم وصف مذهبهم بالأسلم والأحكم، ثم هم الذين أعطوا للنص ما له وللعقل ما له، فلم يعطلوا النص بسلطة العقل ولم يعطلوا العقل بسلطة النص، ولهذا حفظوا التوازن في كل شيء فلم يكونوا ظاهريين يلغون العقل، ولم يكونوا مؤولة يلغون النص، وداء الأمة في الانصياع الكلي لطرف وترك الأطراف الأخرى كالمعلقة.

وبَدَوي شئنا أم أبينا يُعَد عالماً موسوعياً وفيلسوفاً متبحراً أحدث نقلة نوعية في الفكر الحديث، وتمكّن من الخلط بين ثقافة المشارقة وفلسفة الغرب وعلومهم الإنسانية، كما قوّى صلته بالمستشرقين وأشاد بهم وألقى نفسه في رحابهم واستسلم لما توصّلوا إليه من نتائج جائرة أضرت بالثقافة العربية وأفسدت بعض أفكارهم وأنستهم ما توصل إليه علماؤهم الأوائل من علوم شرعية وإنسانية أرهصت لكل ما يدور من علوم ومذاهب ومناهج حديثة، وبدوي الذي أعمل فكره وقلمه في علوم الأوائل على ضوء ما يراه المستشرقون، سيظل معلماً رفيع العماد بما مكّنه الله فيه من تبحر في العلوم وتمكن من رقاب المعارف، نقول ذلك لكيلا يظن ظان أننا نسلبه حقه أو نقلل من شأنه، إنه مدرسة تلتطم فيها المعارف من كل جانب ولكنه بإمكانياته شكّل منعطفاً خطيراً ومنحنى هاماً، وما كان بود منصف أن تجرفه تلك التيارات المادية بحيث لا يرى إلاّ ما ترى لا يزيغ عنها ولا يستبد برأي ولا رؤية والله الذي مَنَّ عليه بالجهد والوقت والقدرات الخارقة لا يريد منه أن يهدرها في سبل لا تؤدي إلى صراطه المستقيم.

يتبع




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد