Al Jazirah NewsPaper Saturday  10/04/2010 G Issue 13708
السبت 25 ربيع الثاني 1431   العدد  13708
 
بعد انحسار مد ما سمي بـ»الصحوة»
رؤية متأملة لمراحل الانفتاح والانغلاق في الإعلام السعودي (1-2)
د. محمد عبدالله العوين

 

مر الإعلام السعودي على مدى تأريخه الطويل بنقلات مختلفة واكب فيها تطور الحياة من الانغلاق والبساطة إلى الانفتاح والمدنية المتدرجة؛ ففي المراحل الأولى لنشأة الإذاعة السعودية كان هناك محظوران

اثنان من جملة محظورات كثيرة؛ وهما: الموسيقى، وصوت المرأة!.

وأمكن التغلب على حساسية التيار المحافظ من هاتين القضيتين بطول البال والتدرج في بث مقطوعات موسيقية جادة كالمارشات العسكرية أو الأناشيد الوطنية في أوائل السبعينيات الهجرية من القرن الماضي، ثم بدأ بث بعض الأغاني باللغة العربية الفصحى كالقصائد الدينية لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وغيرهما إلى أن فرض الامتداد في ساعات البث ضرورة التنويع في الأغاني فدخلت الأغنية العاطفية، وتبع ذلك الاستعانة بصوت المرأة في برامج الأطفال والأسرة فقط وبصفة محدودة وضيقة في بداية الأمر إلى أن أصبح صوت المرأة مألوفا وغير منكر فتوسعت مشاركتها على مراحل في برامج أخرى اجتماعية وثقافية ومنوعات وغيرها.

كان التدرج في الانفتاح على الثقافات العربية والعالمية منهجا قائما في جميع خطط الدولة؛ لئلا تحدث صدمة أو ردة فعل تجاه الجديد من الأفكار والمعارف والفنون وطرائق العيش الذي تنقله الصحافة والإذاعات والمبتعثون والمسافرون وغيرهم ممن يفد إلى المملكة للتدريس أو العمل خلال العقدين اللذين يسبقان مطلع القرن الجديد 1400هـ.

بيد أن الصدمة فيما يبدو حدثت بالفعل؛ فتكونت أفكار سلبية عن المتغيرات الجديدة الطارئة ونشأت جماعة ممانعة وشرسة في مقاومتها لهذا الجديد الطارئ عليها وأضفت على دعواتها للمحافظة على المجتمع في صورته التقليدية القديمة أفكارا أقرب إلى البدائية المغلفة بالسذاجة والتقليد والانغلاق والفوبيا من الجديد؛ تلك الجماعة التي عرفت في التاريخ السياسي الحديث بجماعة أهل الحديث أو جماعة «جهيمان» التي تكونت في المدينة المنورة بادئ الأمر منتصف التسعينيات الهجرية من القرن الماضي ثم تمددت في عدد من المدن والقرى والأرياف؛ لكن نشاطها الفكري والتحريضي والدعوي كان متركزا في المدينة المنورة والرياض، وانطلق منهما إلى حواضر أخرى لجمع الأنصار والمؤيدين الذين يجدون في نفوسهم حرجا من امتداد تمدين المجتمع وتحديثه وطغيان مظاهر الجدة على وسائل الإعلام ومنها بطبيعة الحال: الموسيقى والمرأة!.

حدثت فتنة الحرم المشؤومة بتاريخ 1-1-1400هـ حيث تمترست عصابة جهيمان بأقبية الحرم المكي الشريف مرعبة مرهبة مطلقة النار على من اقترب منها مبشرة فيما يشبه التغييب العقلي أو الغباء الفقهي والتاريخي بانقلاب جديد في الحياة لا أثر فيه للجدة ولا للحداثة ومصرة على العودة بالمجتمع إلى عهود سحيقة منقطعة عن العصر!.

ولكن السلطة واجهت هذه الجماعة الشاذة المغيبة عن الواقع بحزم شديد، واستأصلت شأفتها بعد معركة حامية دامية داخل الحرم قاربت على العشرين يوما و أدت إلى استشهاد عدد من الأبرياء من مدنيين وعسكريين وتوقف الصلاة في الحرم الشريف خمسا وثمانين فرضا وجمعتين، ونال من بقي من أفرادها حيا جزاءه شرعا، وأقيم عليهم الحد بقطع رقابهم في ست مدن رئيسية، وبهذا وئدت هذه الفتنة الحمقاء؛ ولكن آثارها الفكرية امتدت لعقدين من الزمن، فقد ارتبكت مسيرة الإعلام والثقافة في البلاد ودخلت في حالة أشبه ما تكون بمنطقة الحيرة والقلق، أو التيه، أو ربما الاستسلام غير المقصود بكل تفاصيله لإيحاء شروط ومطالب الفئة المتطرفة، أو لنقل: إن الإعلام السعودي بكل مناحيه أخذ بمساره منحى مختلفاً عن خطه السابق المنفتح الذي تطور وتدرج فيه ودخل إلى مرحلة جديدة قلقة ومتوترة ومحتشدة بالمخاوف أو ما يشبه «الفوبيا» من كل جديد؛ فتم اتخاذ إجراءات عديدة حدت من فضاءات العمل الإعلامي الذي كان في طريقه إلى التوسع والتأثير والنضج، ومن ذلك مثلا - وإن كان هذا ليس إلا قمة جبل الجليد - منع الأغنية النسائية المحتشمة المصورة في التلفزيون وتقليل ساعات بث الموسيقى والغناء في الإذاعة وتقليص حضور المرأة في التلفزيون إلا بالقدر الضروري جداً!

وكذلك تم منع نشر صورة المرأة في الصحف أيا كانت أديبة أو مسؤولة، وبذا تحقق للفئة المتطرفة كثير مما سعت إليه وأرادته وإن لم يتم تنفيذ جميع مطالبها لاستحالة ذلك بالطبع !.

كان للتراجع عن الانفتاح المتدرج وتحقيق بعض رغبات التطرف الديني الجهيماني مع ما صحب مطلع القرن الجديد من متغيرات فكرية وسياسية كان من أبرزها ثورة الخميني على الشاه ومقتل السادات بعد زيارته لإسرائيل ونشوء تيار ما يسمى بالصحوة الإخواني بعد هجرة عدد كبير من جماعة الإخوان المسلمين إلى بلادنا؛ كان لذلك كله أكبر الأثر في إحداث تحولات خطيرة في مجتمعنا السعودي، والسير به في اتجاه آخر مختلف تماما عما نشأ عليه؛ وهو التدين الفطري الشفيف المرهف والسمح و قبول المختلف بروح طيبة أو رفضه دون عنف إلى أن يتم استيعاب ذلك المختلف وفهمه أو التعود عليه؛ كما حدث مع مستجدات مدنية كثيرة طارئة كالراديو واللباس العسكري والبرقية أو اللاسلكي واستقدام الخبراء الأجانب والتعليم النظامي وتعليم المرأة، وبدء بث التلفزيون عام 1385هـ وغير ذلك مما حدث من مستجدات.

كان تقبل المجتمع يسير في خطين متوازيين: القبول المبتهج الفرح بالجديد، والتوقف الحذر الوجل من الجديد، ولم تحدث ممانعة عنيفة مسلحة إلا في نطاق ضيق جدا وبخلفيات أطماع سياسية مغلفة برؤية دينية كاتجاه إخوان من طاع الله منتصف القرن الهجري الماضي ووأدها الملك عبدالعزيز- رحمه الله- في معركة روضة السبلة بين الأرطاوية والزلفي عام 1347هـ بحكمة وصبر وحزم في مهدها ولم يدع لها امتدادا فكريا لاحقا، فسارت الحياة العامة في طريقها إلى البناء والنضج والانفتاح المتدرج دون حدوث صدمة حضارية أو فكرية إلى أن يتم استيعاب ذلك المختلف وفهمه أو التعود عليه.

وواقع الأمر أن الحرج كان بالغا جدا مع مطلع القرن الجديد بعد فتنة الحرم والقضاء على جهيمان وأتباعه، وظل السؤال حائرا قلقا عند مخططي إستراتيجية الإعلام: هل نسير على الخط الانفتاحي الأول المرسوم قبل الفتنة أم نستجيب للمانعة الرافضة أي مظهر من مظاهر الانفتاح؟!

من يقول بالرأي الأول يذهب إلى أن مواصلة طريق الانفتاح على الثقافات الأخرى والخروج المرحلي من دائرة المفهومات التقليدية المتوارثة أجدى لتكوين أجيال ناشئة ليس لديها حساسية جيل الصدمة الذي تكون أواخر الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي مع التوسع في الإصدار الصحفي وزيادة عدد المدارس وتعليم المرأة ودخول التلفزيون إلى البيت السعودي، كل ذلك لكون حالة جديدة غير مألوفة وألقى بظلاله على المستقبل القريب المتحول والمختلف، وكنت وأنا حدث منتصف التسعينيات قبل الفتنة بخمس سنين أستمع في المساجد إلى خطابات شديدة السخط على مظاهر التحول والتغيير المتسارعة؛ بل إن بعض المحدثين كان يقول: إن الرياض تحترق!! ولعله كان يعني ما يشغل بال التيار المحافظ المتوجس من خطوات الانفتاح تلك.

ويعول هؤلاء المخططون على طبيعة التعود وألفة الجديد والحاجة إليه، وسيتولى الزمن نفسه إزالة كثير مما وقر في النفوس من بقايا التقليد والاتباع غير الواعي.

بينما يذهب الفريق الآخر من المخططين الاستراتيجيين الإعلاميين إلى أن التوسع في خطوات الانفتاح قد يحدث ردة فعل أخرى أو صدمة جديدة؛ فلابد من الإفادة مما حدث في الحرم، وأخذ العبرة منها بالترفق في الأخذ بالجديد ومراعاة الحساسية الاجتماعية في بيئة محافظة حديثة عهد بالتغيير!.

ويبدو أن هذه النظرة المحافظة كانت هي الغالبة وهي التي أخذ بها الكثيرون؛ استجابة لضغوط المواجهة القريبة العهد، وتأكيدا للنوايا الحسنة التي تنطوي عليها الخطط التنموية وأنها تسير وفق قيم الدين ولا تتقاطع معه البتة.

والحق أن الرأيين كليهما لهما حظ من الصواب وحظ آخر من عدم التوفيق أيضا!.

فليس حسنا أبدا الاندفاع دون رؤية في الأخذ بالجديد دون مراعاة من توجه إليهم الرسالة الإعلامية ودون التفكير الجاد في نتائج العملية الإعلامية على المدى القريب والبعيد.

ولم يكن من الخير أيضا الاستجابة المطلقة لمطالب تيار الصدود عن العصر، والخضوع لرغباتهم بالانكفاء على الذات وتجنب التعاطي مع الثقافات الأخرى وغلق نوافذ الحياة واستعادة تكرار الهواء والماء ذاته!.

لقد أدى التفكير الثاني إلى ما يشبه الغلواء والاندفاع من تيار الصدود والمحافظة الشديدة في تحقيق أكبر قدر من المكاسب الفكرية التي قادت إليها فتنة الحرم؛ فذهب من حملوا السلاح وأعلنوا التمرد وكسب من بقي من تيارهم أو ممن ينحو إلى المحافظة الشديدة ولكنه لم يملك جرأة من سفك الدماء في أقدس بقاع الأرض، وإن كان مؤمنا بكثير من توجهاتهم أو ربما متخفيا على قدر كبير من أفكارهم المنغلقة!.

لقد أدى الرأي الثاني إلى تقييد الحرية الإعلامية بصورة متدرجة أيضا كما جرى الانفتاح بصورة متدرجة أيضاً!

"يتبـع"
* عضو هيئة التدريس بكلية اللغة العربية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

ksa-7007@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد