Al Jazirah NewsPaper Saturday  17/04/2010 G Issue 13715
السبت 03 جمادى الأول 1431   العدد  13715
 
راتبٌ مُفتَرَس.. لا يُسمن ولا يُغني من جوع!!
عبدالحميد العمري

 

إنْ بحثت ببصيرتك في صلب نشاطات حياة أي موظفٍ أو موظفة منذ أول يومٍ يضع قدمه في بيئة عمله، إلى أن يتم صفعه بقرار تقاعده - إنْ كُتبت له الحياة إلى سنِّ الستين - ترنُّ في أُذنيه وهو خارجٌ من العمل لآخر مرّة في حياته عبارة (يالله روّح بيتك، الله يسهّل عليك)، ماذا ستجد؟! حديثنا هنا يتركز على الجيل المعاصر (1990-2030)، شاملاً العاملين في القطاعين الحكومي والخاص. وقد أرى أن يتفضّل القارئ الكريم بمحاولة البحث والتفكير والتخيّل في هذا الشأن قبل أن يكمل هذا المقال! هل سيصل إلى أن يتشنج فكره عند السؤال الباعث على التوتر (وماذا بعد!؟)؟ فإن بدأتَ تشعر بالاكتئاب أنصحك بألا تكمل قراءة ما سيأتي من بقية المقال، الذي أعتقد أنه من أكثر المقالات التي كتبتها تشبّعاً بالاكتئاب المركّز. وبالنظرِ إلى ما يكابده المرء منّا من أعباء وهموم دنيوية مستمرة فلا حاجة لمزيد من نكء دمامل الألم الرابضة على القلوب، ليأتي مَنْ يعاتبني لاحقاً أنني (قلّبت) عليه المواجع! لذا؛ فالمقال متاحٌ لمن لديهم القدرة الفائقة على مواجهة أعنف صور الاكتئاب، إضافة إلى مَنْ تخلو حياتهم من هذا المصطلح الغريب لمجرد (الاطلاع فقط)، مع الاعتذار الشديد لهم إن تسببنا في تعكير صفو حياتهم الرغدة.

أليستْ الحاجة إلى ضمان مصدرٍ للدخل هي الدافع الرئيس وراء هذا اللهاث المعيشي؟ أليس الهدف من ضمان هذا الدخل أن يتم تسخيره للوفاء بمتطلبات الحياة؟.. والحديث هنا عن متطلباتٍ لا تتوقف وتيرة تغيرها لا على مستوى تكلفتها، ولا على مستوى تنوعها وتبدلها حسبما تمليه تحولات حياتنا المعاصرة، غير أنه من المؤكد أن أثقل تلك المتطلبات وزناً وأهمية ممثلٌ في (تأسيس أسرة، وتملك منزل أو استئجاره إلى حين ميسرة تمكنُ من امتلاك منزل! وتوفير وسيلة للنقل، وتولّي مسؤولية الإنفاق على احتياجات الأسرة)، أليستْ تلك المتطلبات هي الأهم على الإطلاق في حياة أي منّا؟! وعليه، في غياب أبسط أبجديات التخطيط المالي لدى أغلبية الأفراد، مع التركيز على عنصر الادخار بالدرجة الأولى لحشد ما يمكن حشده لأجل (منزل العمر)، أو لمواجهة أية أعباء مالية طارئة، وتلك مسؤولية الفقير إلى الله (الموظّف). وفي الجانب الآخر، في غياب السيطرة على تفاقم مستويات الأسعار عبر الزمن (التضخم الزاحف)، بدءاً من تكاليف المعيشة مروراً بأعاصير (التجار الكرام) المفاجئة التي ما فتئت تضربُ الأرز مرة، والسكّر مرة أخرى، والأسمنت والحديد وبقية المواويل المدوية التي لا آخر لها، وانتهاءً بالمقابر الجماعية للقروض البنكية التي أكلتْ الأخضر واليابس، ولا ننسى في طريقنا الشديد الوعورة أن نذكّر بفرص الاستثمار الواعدة في سوق الأسهم، التي تحوّلت لاحقاً إلى ثقوبٍ سوداء، الداخل فيها مفقود، ومن خرج منها لم يعد موجودا؛ بفعل الجهل إن شئتَ، أو الطمع إن ظننتَ، أو التغرير والخداع والغش إن أردتَ.

وماذا بعد؟! وفقاً لدراسة سريعة أجريتها لأجل هذا الموضوع الكئيب فإن من سيبدأ حياته الوظيفية براتب 10 آلاف ريال فما دون إلى 1000 ريال (بافتراض عمر وظيفي 40 عاماً)، وبمعدل نموٍ سنوي للراتب يبلغ في المتوسط 2 في المئة، فإن فاتورة المتطلبات المذكورة أعلاه ستستقطع ما نسبته 81 في المئة من إجمالي دخله طوال عمره الوظيفي لمن سيبدأ حياته من 10 آلاف ريال، إلى أن نصل إلى من سيبدأ حياته الوظيفية بألف ريال الذي سيتم استقطاع 188 % من راتبه (أكثر من إجمالي دخله، ومن ثم سيكون مرغماً على الاقتراض من القاصي والداني)، علماً بأنه تم استبعاد (متطلّب) تملك منزل العمر ضمن تقديرات الدراسة؛ إذ ستكون نسب الاستقطاع محصورة بين (95 في المئة، ونحو 216 في المئة) حسب الترتيب! هذه الافتراضات قامتْ مستبعدة العوامل الناسفة (القروض البنكية، الخسائر المريرة في سوق الأسهم)؛ إذ في حالِ إضافتها لنموذج الدراسة فإنك ستحظى بمشاهداتٍ تتفوق في درجة رعبها كل ما ابتكرته هوليود من مشاهد الرعب منذ تأسست إلى وقتنا الراهن. أين الخلل بعدئذ؟ هل ما زالت الأسباب المذكورة أعلاه مقنعة، كمقدماتٍ أفضتْ إلى اختلاط الحابل بالنابل، ومن ثم لنصل إلى المرحلة البالغة التعقيد؟.. أترك الإجابة لمن ما زال يقرأ المقال حتى الآن.

وماذا بعد؟! ما مضى من حديثٍ كان محصوراً حول من ضمِنَ مصدراً للدخل، بغض النظر عن كفاية هذا الدخل من عدمه من أجل تلبية المتطلبات المعيشية، ولكن هل يمكن أن نتجاهل شرائح أخرى والحال تلك بهذه الصورة المعقدة؟! ومن هي تلك الشرائح الأخرى غير العاطلين عن العمل، والأرامل والمطلقات، وما ملكت أيمانهم من أيتامٍ، وآباءٍ وأمهاتٍ كبارٍ في السن. هل نسيتُ عائلات من يقبع أولياء أمورهم في السجون؟ هل نسيتُ ذكر المتقاعدين ممن لم يتملكوا حتى بعد تقاعدهم منزل العمر، ومن قد تكون رواتبهم التقاعدية أقل من الحد الأدنى للمعيشة؟! ماذا برأيك يا مَنْ لا زلت تشاركني قراءة هذا الاكتئاب سيكون عليه حال تلك الشرائح؟.. بالمقارنة مع من علمنا مصيرهم ممن ضمنوا مصدراً للدخل؟! هل ضاقتْ علينا واستحكمت فلم نعد نرى لها مخرجاً؟ إننا ونحن نرى بأمِّ العين سوق العمل لدينا قد استضافت أكثر من 7 ملايين مقيم، إننا ونحن ننعم بما وهبه الله لهذه البلاد من خيراتٍ وثرواتٍ يندر أن تتوافر لأي من بلاد العالم، إننا ونحن نعلم تمام العلم أن الحجم الفعلي المستحق للزكاة على رجال الأعمال لدينا أكثر من 42 مليار ريال سنوياً، وليس 6 مليارات فقط، إننا وقبل كل ذلك نعلم تمام العلم حجم الاهتمام البالغ من قيادتنا الحريصة كل الحرص على رفاهية إنسان هذا الوطن الغالي.. إننا ونحن نتمتع بكل تلك المزايا والهبات فلا شكَّ أن الحلول الناجعة متوافرة، وأن كلّ ما يتطلبه الأمر مسؤولية تحمّل الأمانة بما يُرضي الخالق عز وجل، ثم بما يرتقي إلى تنفيذ توجيهات القيادة المخلصة، وتلبية احتياجات مجتمع سلة الأوجاع المذكورة أعلاه، وعدا ذلك سيظل هذا الملف المكتئب مفتوحاً، وممتداً في اكتئابه إلى أن يكتب الله لنا جميعاً ما كان مقدّراً ومكتوباً.

عضو جمعية الاقتصاد السعودية


me@abdulhamid.net

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد