انتهت الإجازة السنوية، وعاد المصطافون إلى المملكة الحبيبة، وهم أحد اثنين، إما فرحاً مسروراً، نال قسطاً وافراً من المتعة والاستمتاع، عاد وكله حيوية ونشاط، تعرَّف على معالم البلاد التي زارها، الطبيعية والحضارية والثقافية، جال بين أهلها وتعرَّف على عاداتهم وتقاليدهم وعلى أساليب حياتهم، وأنماط سلوكاتهم، أنفق ماله في كل مجال يجد فيه سعادة عائلته وراحتها، فسكن أفضل الأماكن وأكثرها متعة وجمالاً، وزار أماكن الترفيه المباح والتسوق، فنال كل متع السفر وفوائده، وترك خلفه لكل من تعامل معه وعرفه سمعة طيبة، وانطباعاً ساراً؛ فكان مثالاً للمواطن الملتزم الذي يجسِّد قيم بلاده وأخلاقها سواء كان في بلاده أم في خارجها.
وعاد البعض مكتئباً حزيناً، نال قسطاً تاماً من الخسارة والخسران، بعد أن خلع عباءة الحياء، وتخلى عن المعايير القيمية والأخلاقية التي تضبط السلوك وتحفظه وتحافظ عليه من الزلل والانحراف، هذه الفئة من المصطافين تنام مع إشراقة الشمس، وتصحو عند غروبها، وفي المساء تتجول في ظلام الليل بين أماكن الخراب واللهو والنصب والاحتيال، وتتعامل مع شذاذ الناس وفاسديهم، لا تترك مكاناً تُهدر فيها الكرامات والأخلاق والأموال إلا زارته، فإذا هي خبيرة بكل معالم الفساد والإفساد.
هذه الفئة رضيت بأن تغرق في أوحال الساقطين والنصابين ودعاة الرذيلة الذين يزينون ويسهلون الحصول على ما يعدونه متعة وترويجاً. هذه الفئة من المصطافين تعد فريسة سهلة يسهل قنصها والاستحواذ عليها واستمالتها لكونها مستعدة ومتهيئة مسبقاً للانقياد وراء شهواتها وتتبع المَواطن التي تروج لكل قبيح من الأفعال والأقوال. هذه الفئة من المصطافين جالت بين الساقطين من الناس، وزارت مَواطن اللهو والعبث، وغرقت في أوحال الرذيلة؛ لأنها تخلَّت عن دينها وقيمها وأخلاقها، تخلَّت عن الحقائق والمعارف التي تعلمتها وتربت عليها في البيت وفي المدرسة وفي المسجد.. يقول محمد الغزالي: (إن الإنسان بفطرته قد يعرف الحقيقة؛ فالحلال بيِّن والحرام بيِّن، بيد أن هذه المعرفة لا قيمة لها إن لم تحل الحلال وتحرم الحرام، وإن لم توقفنا الحدود الفاصلة بين الفضيلة والرذيلة والعدالة والعدوان).
حقا إن الإنسان عندما يتجرد من ثوابت دينه وينحيها عن إدراكه ووعيه وذاكرته، وعندما يتخلى عن معارفه القيمية والأخلاقية، وعندما لايحل الحلال ويحرم الحرام، فإنه يصبح كائنا آخر، إنه كائن بشري ممسوخ؛ حيث يبدو في ظاهره إنسانا، نظرا لما يتسم به من سمات بشرية، لكنه في باطنه وحقيقة أمره حيوان؛ نظرا لما يصدر عنه من سلوكيات وتصرفات لا تلقي بالا للحدود، ولا تأبه للضوابط والمعايير.
المؤسف أن سلوكيات هذه الفئة تطغى على العامة وتشملهم، تشوه صورهم، وتصنع انطباعات سيئة في البلاد التي يصطافون فيها عن عموم أبناء جنسيتهم، يجرونهم معهم إلى أتون ومَواطن لا تقرها العامة والسواد الأعظم من المشمولين بوصمة العار هذه. يذكر أحد سائقي سيارات الأجرة عن سلوكيات بعض المصطافين الذين تعامل معهم، وكانت صوراً مؤسفة مخجلة، أجزم بأنها لاتبدو إلا في فئة قليلة من المصطافين، لكنها على قلتها تبدو كبيرة كثيرة في ذهن الناس الذين يتعاملون من المصطافين.
يقول هذا السائق عن الذين يعودون وقد كست وجوههم الكآبة، وتملكت نفوسهم مشاعر الحزن: ركب معي أحدهم، أتدرون عن أي شيء سأل؟ لقد سأل عن محل يبيع المسكرات. يقول السائق: قلت له: هذا لا يليق بك، وأنا لا يمكن أن أسعى في مثل هذا الطلب. عندئذ عنفني ووبخني ونهرني، وقال: أنت أجير، اتجه حيث أطلب منك. يقول: أذعنت لطلبه، وكلي ألم وحسرة، اشترى ما يحلو له، واتجه إلى مقر سكنه، وكان الوقت قرابة المغرب. أمر بكأس وقال للخادم: ناولني إياه قبل أن يؤذن المؤذن ونقوم لأداء الصلاة! وقال عن مصطاف آخر، جاوز عمره السبعين عاماً، إنه في كل مساء يتجه إلى أحد الملاهي الليلية ومعه قرابة عشرة آلاف ريال، ينثرها على هامات وقامات تبدو في ظاهرها براقة جذابة، لكنها في واقع حالها أنتن من مجاري الصرف الصحي.
هذا السبعيني وأمثاله من المبذرين أموالهم، تجحظ أعينهم وتضطرب أحوالهم، يغضبون وينزعجون، ويرفضون عندما تطلب أسرة أحدهم خمسمائة ريال لشراء حاجة ضرورية، أو لقضاء ليلة في إحدى الاستراحات أو المطاعم تلمّ شمل العائلة.
أمر مخجل مؤلم، أليس كذلك؟