Al Jazirah NewsPaper Friday  28/05/2010 G Issue 13756
الجمعة 14 جمادىالآخرة 1431   العدد  13756
 
المسكوت عنه
فقه الاحتياط وأثره في ثقافة المجتمع
د. حمزة بن محمد السالم

 

في الجامعة وأمام شباب سعوديين صغار في العمر كهول في الأدب، أقف يومياً سويعات هي من أجمل لحظات العمر، أتذوق روعة رؤية جمال المستقبل وأمل البلاد ووعد الوطن.. واستنشق في ذلك كله نسيم الحياة.. وساءلتني نفسي يوماً: أصحيح أن ما أراه أمامي ما هم إلا وحوش مقيدة لو حُل قيدها لأفسدت البلاد والعباد.. خاطر مفزع أتاني بعد نقاش حول ما ستلاقيه المرأة السعودية - كما زعموا - من أذى وتحرُّش من الشباب السعودي إن هي تجرأت وساقت سيارتها في حال صدور أمر حكومي يسمح بذلك.

هذه النظرة الظالمة الجائرة التي تعتقد أن شبابنا هو أحط الشباب العربي ثقافة ما جاءت إلا بسبب فقه الاحتياط الذي حرَّم سياقة المرأة من باب سد الذرائع.. فكان من آثاره الجانبية أن المجتمع صوَّر المرأة التي تسوق أو تخرج إلى الشارع.. وكأنها امرأة متمردة خارجة عن الأدب والانضباط، فانقلبت مفاهيم المروءة والشهامة إلى إيذاء المرأة ومضايقتها بدلاً من حمايتها والانتصار لها.

وسياقة المرأة للسيارة - على أهميتها - ليست قضيتي، وفرض كفاية القيام بها قد كفاني به غيري.. وما أتيت بها هنا إلا مقدمة لقراءة تحليلية في الآثار الاجتماعية الجانبية لفقه الاحتياط الذي يغلو في التشديد في مسألة، فينتج عن هذا التشديد أمور أخرى، هي أعظم أهمية، وأكبر خطراً لم يدركها المحتاط فقهياً ولم يحط بها علماً.. وجامع ذلك قول عائشة -رضي الله عنها- لمعاذة: «أحرورية أنت».. فمعاذة قدَّمت العقل على النقل.. فأرادت أن تقضي صلاتها احتياطاً بعد طهرها.. معللة ذلك بأن الصلاة أهم من الصيام فمن باب أولى أن تُقضى.. فلو تشددت معاذة فقضت.. لما وقفت عند ذلك.. بل لألحقت هذا الاحتياط بغيرها من بنات جنسها.. فألزمتهن بذلك فأضاعت أوقاتهن وبيوتهن وأبناءهن.. ثم لتعبن كلهن.. ولتركن الصلاة كلها جملة وتفصيلاً.

الخطاب الديني له أثر مباشر.. وأثر غير مباشر على المجتمع المتدين.. فتركيز فقه الاحتياط على أمور معينة يُحدث أثراً مباشراً على هذه الأمور كما أراد لها فقه الاحتياط.. ولكن الأثر غير المباشر الذي لم يقصده فقه الاحتياط لكنه يقع.. هو أن المجتمع الذي يرتكز على الثقافة الدينية، سيهمل الأمور الأخرى التي لم يتطرق إليها الخطاب الديني، فالمسكوت عنه من المباحات.. وما سكت عنه الخطاب الديني -المشغل نفسه والمجتمع في فقه الاحتياط - عادة ما يكون أهم وأخطر.. وهذا يشرح جانباً من اللا مبالاة في نظافة الأماكن العامة.. وفي الحرص عليها.. وفي قلة العمل التطوعي.. وحتى في كثرة المخالفات المرورية.. وهضم حقوق الآخرين في الأولوية في الطرقات والمواقف.. وغير ذلك كثير.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ).. لذا فإنه من الظلم وقصر النظر الحديث فيما لا نفع منه والتهجم على فتاوى الأمس التي قامت على فقه الاحتياط.. فقد كانت فتاوى زمانها لا يُصلح البلاد والعباد إلا هي، لكنه من الخطأ الإصرار عليها.. فهناك فرق بين فتاوى الحروب والفتن وقيادة الأزمات.. وبين فترات التنمية والاستقرار والبناء.. فقائد الحرب لا يصلح لقيادة السلم.. وشاهده خسارة البطل القومي والقائد المُجرب ونستون تشرشل في الانتخابات البريطانية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

إن مما سكت عنه أن الإصرار على اصطحاب فتاوى فقه الاحتياط بعد أن تعداها الزمان وملَّها المكان.. ما هو إلا تقليد محض من بسطاء لا يُحسنون إلا التقليد، فمن باب أولى أن يقصر إدراكهم عن الآثار الجانبية السلبية لفقه الاحتياط على المجتمع والدولة.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد