Al Jazirah NewsPaper Thursday  03/06/2010 G Issue 13762
الخميس 20 جمادىالآخرة 1431   العدد  13762
 
أيقونة البث المباشر وأيقونة الحوار
اللواء د. محمد بن فيصل أبو ساق

 

قبل عقد ونيف من الزمن، تعالت الأصوات، وثارت الفعاليات، محذّرة من مغبة استقبال البث العالمي المباشر، المفترض أن يصل إلى فضائنا المحلي، ليكشف لنا عن أشياء وقيم وأفكار، قد لا تروق لنا، ويكشف عنا مثلها.

وقبل أن نتهيأ بالقبول أو الرفض للقادم من خارج البلاد، عبر وسائط وتقنيات لا نزال نجهلها، كنّا نعيش في دوائر فكرية محلية منعزلة عن بعضها بشكل كبير. وكان مصطلح «البث المباشر» له سمة خاصة، حيث سرعان ما تحول إلى «أيقونة» لها رواجها. ورغم ما حمله المصطلح والأيقونة من محتويات ومجهودات، كانت سرعة البث المباشر الخارجي بتعدد وسائله وأساليبه، وبتنوع محتوياته الفكرية، أسرع من تلك الدفاعات والسواتر المحلية، التي تنوعت استراتيجياتها بين معنوي ومادي، وبين صاخب وهادئ.

وتحوّلت الاستراتيجيات والسواتر الدفاعية، المضادة للبث المباشر الحتمي إلى تكتيكات متعددة، بين السالب والنشط. فمن التكتيكات ما اعتمد التوعية والتحصين الفكري والتثقيف والتحذير والتخويف والإرشاد، بشتّى الوسائل والأساليب المتوفرة حينها. وقد زخرت الصحف ووسائل الإعلام المحلية بالتغطيات الهائلة عن مخاطر وسلبيات البث المباشر، وكان لبحوث الجامعات ودروسها ومحاضراتها، وكذا المنتديات الأكاديمية نصيبٌ وافرٌ.

أطروحات مكثفة كان لها رواجٌ كبيرٌ ومناخٌ مزدهرٌ نحو منع البث المباشر أو صده نسبياً. وتكتيكات أخرى كانت مادية وتنفيذية تنوعت بين منع التوريد أو التهريب أو التركيب لكل وسيلة تسهم في جلب أي نوع من أنواع البث المباشر. وخرجت بعض التكتيكات إلى مبادرات فردية من تلك التي يتصرف فيها الأشخاص من تلقاء أنفسهم، آخذين تنفيذ القوانين على عواتقهم بإجراءات لا تخلو من الحماس والعاطفة وبابتكار الجديد من أساليب المنع والحجب للوسائل وليس للأفكار.

وفجأة، وقبل أن يستوعب الكثير معنى البث المباشر وتتضح وسائله، كان وصول البث المباشر المتنوع في وسائطه ومضامينه وتقنياته يغطي الأرض والفضاء بشكل مباشر وآني وبطيف لا يحصى من الأفكار بخيرها وشرها، رغم كل ما سبق من إجراءات ومصدات وسواتر دفاعية. ورغم أن مصطلح البث المباشر كان يملأ الفضاء الفكري، وأصبح بحث وحديث من لا حديث له، إلا أنه سرعان ما اختفى، وبشكل عجيب تحت زخم البث المباشر نفسه وكثافته التي أصبحت أمراً واقعاً. وهكذا كان البث المباشر الذي تخوفنا منه قد حمل لنا كل جديد وغريب، وأوصل لنا كل بعيد، وأصبحنا مع عالمنا الفسيح بعيده وقريبه، تحت شمس واحدة وظل واحد.

وفي خضم تحديات دخولنا إلى القرية العالمية، عبر التواصل المكثف المرئي والمسموع والمقروء، برزت عوامل الاتفاق ومصادر الاختلاف بين أطياف مجتمعنا، ومع الآخر الخارجي الذي له أكثر من هوية. وكان لزاماً علينا وعلى غيرنا أن تتقارب رؤانا وتتفق مصالحنا للبحث عن القواسم المشتركة لتعظيمها ما أمكن، وعن أسباب الاختلاف والفرقة للتقليل من مخاطرها.

وفي الوقت الذي كانت ثقافة البث المباشر قد انتعشت بالتحذير من مخاطره القادمة، أصبح البث العالمي المباشر أمراً واقعاً حمل معه ثورة الاتصال وطفرة المعلومات.

وأخذت ثقافة الانفتاح الإعلامي والمعلوماتي تتفاعل بشكل أكثر نضجاً وواقعية. وهكذا بدأت الحاجة لمعرفة الآخر، وللتواصل مع الآخر وللاعتراف بالآخر، بوسائل تلائم طبيعة الضخ الإعلامي والفكري، وآنية الاتصال والتواصل المعرفي العالمي. وتحولت الاهتمامات نحو مفهوم الحوار المحلي والعالمي وحتميته تحت معطيات المجتمع الواحد، والعالم الواحد والمصالح المشتركة. وبقدر ما ارتفعت الأصوات نحو الحوار العالمي عبر موجات الأثير العالمية في فضاء البث المباشر المتنوع، كان الحوار المحلي متقطعاً في جزر دوائر بثها محدودة وفي اتجاهات أحادية وليس له قنوات ولا موجات ولا فضاء.

ولأن عظماء الرجال هم وحدهم من يغيّر وجه التاريخ، برؤاهم التي تتجاوز الآفاق الراهنة والمستقبلية، كان الملك عبد الله بن عبد العزيز (ولي العهد السعودي حينئذ) قد حدد رؤية وطنية سعودية للحوار الوطني السعودي المحلي، والحوار العالمي بين أتباع الأديان والثقافات الأخرى. وبدون مقدمات تمهيدية أطلق الملك عبد الله مشروعه الوطني لعقد اللقاء الوطني الفكري الأول لنخبة تمثل شرائح المجتمع السعودي في مدارسه المذهبية والفكرية تحت رعايته وتوجيهاته.

وحقق اللقاء الأول نتائج غير مسبوقة وغير متوقعة في التحاور والتقارب بين المجتمعين من أبناء المملكة بمنتهى الشفافية والمصداقية.

وتم إعلان تأسيس مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني في أواخر عهد المغفور له الملك فهد بن عبدالعزيز. وكان إعلان تأسيس المركز قد جعل الأنظار تتحول نحوه، باعتباره بيتاً كريماً ورمزاً للوحدة الوطنية، لاتساعه لمختلف الأفكار والرؤى المحلية، في أهم وأخطر الشؤون الوطنية، مذهبياً وفكرياً وثقافياً وإدارياً. ودأب المركز على عقد عدد من اللقاءات الفرعية المتنوعة على مدار العام خلال سنواته الماضية ناهيك عن اللقاء الفكري السنوي حتى أصبح الحوار الوطني «أيقونة» لها هويتها.

وطاف المركز بلقاءاته عبر جغرافية المملكة مناطقياً وفكرياً واجتماعياً فكان لكل منطقة نصيب وافر في استضافتها لفعاليات المركز. وقد حقق المركز مكاسب لا نهدف لذكرها في هذه العجالة، وكان من أبرزها تلك الجسور الاجتماعية بين أطراف مذهبية وفكرية لم يسبق لها هذا التواصل والتحاور قبل بروز المركز وانطلاق فعاليات الحوار الوطني.

وحتى نعرف حجم تأثير فعاليات وملتقيات الحوار الوطني في البيئة الاجتماعية السعودية لا بد أن نقارن الأحوال بذاكرة قوية لا تنسى واقع الحال بالأمس القريب، مع ما يحدث اليوم في ساحتنا الفكرية. ويكفي الاطلاع على مساحة النشر الإعلامي المقروء والمرئي لندرك حجم تأثير توصيات الحوار الوطني على مستوى الشفافية وسقف الحرية الإعلامية والفكرية في بلادنا.

وعن أهم معيار لقياس مستوى الحرية والشفافية التي رفع سقفها مشروع الحوار الوطني عبر ملتقياته الفكرية علينا أن نتذكر لقاءات الحوار الوطني السنوية التي شملت شؤون وطنية تهم كافة الناس اشترك فيها وزراء ونواب وزراء وكبار مسئولين في مواجهة عدد من المواطنين المهتمين وبثت فعالياتها على الهواء مباشرة وبمنتهى الشفافية. فاللقاء السنوي ينعقد في حضور بارز ويتم الحوار على طاولة واحدة تحت تغطيات إعلامية مكثفة وبث إعلامي مباشر.

وهذه المستويات المتكررة من المواجهات الفكرية المباشرة بين كبار مسئولي الدولة وممثلي المواطنين تتم بشكل شفاف وفي حرية تامة وتعرضها قنوات التلفزيون مباشرة وبحضور مراقبين إعلاميين لا تحكمهم أية قيود، حيث تشاهد المداولات حية على الهواء. ومن النادر جداً في الدول، أن تشاهد هذه المستوى وهذه الاستمرارية في مواجهة مباشرة بين وزراء وكبار مسئولين في الحكومة مع رجال فكر وإعلام في حوار متخصص وشفاف تبث فعالياته إلى المجتمع ليقرر الناس حالة الحوار وما دار خلاله كل من خلفياته ورؤيته.

وهكذا، وضع مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني نهجاً جديداً للتحاور بمهنية راقية وبقيم نبيلة مكنت وسائل الإعلام السعودي من رفع سقف الشفافية إلى مستوى البث المباشر لأهم القضايا الوطنية. فلا مجال للتراجع أو خفض سقف الحرية والشفافية وهو الأمر الذي تراكم مع الزمن ليؤثر في بيئة الحوار الاجتماعي السعودي بشكل غير مسبوق. وبحكم تراكم فعاليات مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني المطبوعة والمرئية والمسموعة، أصبحت هنالك درجات ملموسة من الحاجة إلى فهم الآخر، وهنالك تحولات في نسبة قبول الآخر داخل التعددية السعودية.

وعلى المستوى الدولي بادر راعي الحوار السعودي ومؤسسه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى إطلاق مبادرة عالمية للحوار بدأها بلقاء إسلامي موسع في مكة المكرمة لتوحيد رؤى المسلمين وتعزيز أخوتهم. ثم أطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز مبادرته للحوار العالمي التي نتج عنها عدد من اللقاءات الدولية والفعاليات العالمية المهمة لخدمة الإنسانية. وحقق الملك عبد الله نتائج كبيرة لصالح المجتمع العالمي المحب للسلام. وقدم الملك عبد الله للعالم صورة إنسانية نبيلة تنطلق من الأخلاق العربية والإسلامية التي يعبر عنها ويعمل من أجلها بفعاليات متنوعة.

نعم، لا نزال في بداية الطريق لجعل نتائج الحوار الوطني السعودي منهج عمل في بيئتنا الوطنية الحكومية والأهلية. فالأمل ليس في الحوار لمجرد الحوار، بقدر ما هي مقومات اجتماعية إيجابية فيها آمال نحو التلاحم وتكافؤ الفرص والوقوف على مسافة واحدة من كل الشؤون الوطنية في الواجبات والحقوق. والأمل أن تكون تعدديتنا مصدر إثراء لمجتمعنا وان يكون الحوار سبباً في كشف المزيد من مصادر قوتنا الوطنية. وبمثل ما تتحول التعددية المحلية إلى مصادر قوة وطنية، فالأمل كذلك في الحوار العالمي أن يبرز مصادر الثراء العالمي عبر التقارب والفهم الإيجابي المتبادل.

وختاماً، فقد حمّل الملك عبد الله بن عبد العزيز رؤية وطنية تليق بهذا العصر وكان سباقاً لغرس قيم التلاحم الوطني في مواجهة تحديات المستقبل. لقد مهدت رؤية الملك ورعايته لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني عبر الرسالة والأهداف لتعزيز الوحدة الوطنية للمجتمع السعودي في بيئة إقليمية وعالمية تزخر بالعنف والإقصاء.

وكان -حفظه الله- صاحب المبادرة الإنسانية لتعظيم القواسم العالمية المشتركة وتجنيب العالم مخاطر ثقافات المصالح المحدودة والأطماع التوسعية لجعل العالم مكاناً ملائماً متسامحاً ومتسعاً للجميع.

ومرة أخرى، دعونا نفكر ونقارن كيف كنّا نحو أنفسنا ومع الآخر، قبل وبعد مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني. وما هي الفعاليات الأخرى، التي يمكن أن تسهم بقفزات أخرى نحو بيئة محلية وعالمية أكثر شفافية، وأكثر إيجابية؛ ليس فقط في شؤون الحوار بل نحو غاياته المثلى. ولنتعاون جميعاً لإبقاء أيقونة الحوار ساطعة بأشكالها ومضامينها؛ حتى لا تذوب في فضاءات متعددة كما ذابت أيقونة البث المباشر.



mabosak@yahoo.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد