Al Jazirah NewsPaper Thursday  03/06/2010 G Issue 13762
الخميس 20 جمادىالآخرة 1431   العدد  13762
 

شيء من
السخرية وتراثنا ورسامو الكاريكاتير!
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

 

ألَّفَ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي قرابة الثلاثمائة كتاب؛ فلم يُذكر عِلم في زمنه ألا وألَّف فيه. كتب عنه أحد محققي كتبه: (وله في العلوم كلها اليد الطولى من تفسير وحديث وتاريخ وحساب وكذلك النظر في النجوم والطب والفقه واللغة والنحو، وينطبق عليه قول الشاعر:

مازلت تدأبُ في التاريخ مُجتهداً

حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا).

وكان كما تقول سيرته أحد كبار العلماء الحنابلة في زمنه.

أشهر كتبه كتاب (أخبار الحمقى والمغفلين).

وهو سفر نادر في الثقافة والأدب نهَجَ فيه منهج السخرية بأسلوب متمكن، وعرض جميل وجذاب، و(كفشات) تدل على فطنة وذكاء؛ فكان ينتقي من العبارات أبسطها وأدقها وأقدرها على الوصول إلى ذهن المتلقي دون تكلف أو تصنع؛ وكان كما يظهر من مقدمة كتابه يدرك أن النقد الساخر نقدٌ بنّاء وتقويمي يقول: (إن ذكر المغفلين يحثّ المتيقظ على اتقاء أسباب الغفلة إذا كان داخلاً تحت الكسب وعامله في الرياضة؛ وأما إذا كانت الغفلة مجبولة في الطباع، فإنها لا تكاد تقبل التغيير) والكتاب سَجَّلَ فيه بأسلوب ساحر وساخر تاريخ عصره، وبالذات التاريخ الاجتماعي، من خلال النكتة والدعابة والكفشات، ولم يجد - وهو الفقيه العالم المفسر والمُحدِّث - في ذلك ما يجرح عدالته، ويمس مكانته؛ كما لم يُروَ أن أحداً في عصره ثار أو (ألّبَ) عليه، أو رفع عليه (دعوى حسبة) مثلاً، أو اعتبر أن تعريضه ببعض الفعاليات الثقافية في عصره (انتقاصاً) أو ذماً لهم، بل كان يُعتبر بالفعل أحد أهم العلامات المضيئة في القرن السادس الهجري.

الحملة التي يشنها (الحركيون) وبعض البسطاء من غير الحركيين على رسامي الكاريكاتير ليس لها ما يُبررها شرعاً وعقلاً وموضوعاً.

فما كتبه ابن الجوزي ساخراً عن تصرفات بعض الحفاظ والفقهاء والمحدثين والمحتسبين والقصاص هو - أيضاً - كاريكاتير وسخرية، لكنه بالكلمات بدلاً من الرسم؛ فلو كانت السخرية ببعض هذه الشرائح تنقص واستهزاء لما أقدم عليه عالم جليل و(حنبلي بعد) بحجم ابن الجوزي.

سأورد فيما تبقى من المقال نماذج من هذه السخرية التي لو قيلت في زماننا لنال قائلها من الشتم والتجريح والتسفيه من (أغيلمة الصحوة) ما ناله بعض رسامي الكاريكاتير: (جاء في وصف الأحمق: قال الأحنف بن قيس: إذا رأيت الرجل عظيم الهامة طويل اللحية فاحكم عليه بالرقاعة ولو كان أمية بن عبد شمس!.

وقال معاوية لرجل عتب عليه: كفانا في الشهادة عليك في حماقتك وسخافة عقلك ما نراه من طول لحيتك.

وقال بعض الشعراء:

إذا عرضت للفتى لحية

وطالت وصارت إلى سرتهِ

فنقصانُ عقل الفتى عندنا

بمقدار ما زاد في لحيتهِ

وجاء في ذكر المغفلين من القصّاص: قيل لسيفويه إن اشتهى أهلُ الجنة عَصيدة كيف يعملون؟ قال: يبعث الله لهم أنهار دبس ودقيق وأرز، ويُقال: اعملوا وكلوا واعذرونا! قال أبي خلف: قصَّ قاص في المدينة فقال: رأى أبو هريرة على ابنته خاتم ذهب، فقال: يا بنية لا تتخمي بالذهب فإنه لهب، فبينا هو يحدثهم إذ بدت كفه فإذا فيها خاتم من ذهب، فقالوا له: تنهانا عن لبس الذهب وتلبسه؟ فقال: لم أكن ابنة أبي هريرة! قال بعض القصّاص: يا معشر الناس إن الشيطان إذا سُميَ على الطعام والشراب لم يقربه، فكلوا خبز الأرز المالح ولا تُسموا، فيأكل معكم ثم اشربوا الماء وسموا حتى تقتلوه عطشاً!).

هذا غيض من فيض؛ ولو أن المجال يسمح لأتيت بمزيد من القصص التي تدل على سعة أفق الفقهاء المتقدمين، وعدم ضيقهم بالسخرية، واعتبارها ضرباً من ضروب الأدب والمؤانسة.

ومرة أخرى.. ما الفرق بين هذه الصور الساخرة المرسومة بالكلمة التي رسمها هذا الفقيه الجهبذ، وبين ما يرسمه رسامونا كاريكاتيرياً في الصحف؟

إلى اللقاء.

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد