Al Jazirah NewsPaper Saturday  12/06/2010 G Issue 13771
السبت 29 جمادىالآخرة 1431   العدد  13771
 
وهم الهوى
ابراهيم بن عبد الرحمن التركي

 

صَداقُ المدح هو الوهم، ويحتجزنا السؤال الأهم: فمالذي يعنيه أن تعرف نفسك جيدًا ثم تغمض عينيك وتتخيل ذاتًا أخرى تسكنك؛ فهي النقية الوفية العاملة العالمة، ولم تعهدها إلا موشومةً بأشياءَ من الأنوية والتقصير والكسل والجهل، ولا تجد في نفسك رغبة في «حثو التراب» على القائل أو مقول القول.

- كذا الفرد؛ يأنس بصوت الطار والمزمار؛ فيسمع ويطرب، وقد يصدق ويصفق، وكنا نتعاهد فنون البلاغة فإذا بنا في ظنون المبالغة، وإذا سَرَفُ الثناء يكشف سر الهجاء؛ لنقع بين متلازمتي الإغداق والإملاق؛ فإما النور أو الديجور.

- ومثل الفرد الممثِل رقمًا صغيرًا قرينُه الرقم الأكبر حين يتورم بمنصب؛ فلا يدري شيئاً عن نَصَبه بل أنصبته، وتبدو المغانم له دون المغارم، ونبدأ في معضلة عبادة الذات والتعلق بالملذات.

- كان لدى مَنْ قبلنا حكاية شعبية عن رجل طيب يتبع خطابه لأصحابه بمناداتهم: «يا خلف أبوي»، وكانوا يُكْبرونه من أجلها، ويرونه حفيًا لطيفًا، حتى سمعوه يهاذر «دابته» بها؛ فأيقنوا أنها العادة تتكرر فتتدور وتتحور وترسم تنميطًا لا في الخطاب الشعبي وحده، بل في الخطاب الثقافي والإعلامي والتاريخي والديني لدرجة تفقد معه الكلمات مدلولاتها.

- هنا نقع بين تطرفين؛ فنحن بين شعوب الأرض المروي تاريخُها الاجتماعي: عيانًا أو بيانًا، نرتوي بالثناء ويُجزعنا الانتقاد على المستوى الشخصي، وفي الوقت نفسه نستلذ بنقد سوانا غَيْبة ومدحهم مواجهة، وفي هذا المشهد ذي الفوارق مطارق على رأس البناء الأخلاقي المضخم للذات والمقزم للآخر، وفي زواياها ولدت مفاهيم التفوق الوهمي والخصوصية المطلقة.

- قد نحتاج إلى إعادة صياغة خطاباتنا؛ بحيث يعتاد الناس على أن للصورة وجهين: مقبلاً ومدبرًا، وباسمًا وعابسًا، وجميلاً وقبيحًا، وأن الاستتار دثار لا يغطي العري الداخلي وإن ألبس الخارجيّ ريشًا وأضفى رتوشًا، وهو ما يعني أن السوءات لا توارى بالتراب.

- ولعل ما يسند هذا الاتجاه ما عرضه باحث أميركي في «سان فرانسيسكو» حول نتائج ضدية لمادحي أطفالهم أدت لخفض نتائجهم الدراسية بنسبة عشرين في المئة، وأوصى بالتخاطب معهم عبرالجمل القصيرة والسريعة التي تلتفت لمدح المجهود المبذول وليس الحاصل المتحقق.

- وحين مدح أناس سيّد البشر محمدًا صلى الله عليه وسلم بقولهم: يا خيرنا وابن خيرنا وسيّدنا وابن سيّدنا؛ فحذرهم من أن يستهويهم الشيطان وأن يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله إياها؛ وكذا كان نهيه -عليه الصلاة والسلام- عن إطرائه كما فعلت النصارى بعيسى؛ فإنما هو عبدالله ورسوله، ولا تعليق يكافئ هذه الصورة الوضيئة؛ فليتنا نؤطرها أمام كل من يطربه المدح فيسعى إليه، ويؤرقه القدح فيداريه ويواريه.

- مللنا المسؤول الذي لا يُسأل، والوجيه الذي لا يواجَه، والإنسان المسكون بالوهن: قويًّا، وبالانكسار: أبيًّا، وبالخوف: شجاعًا، وبالارتماء: بطلاً قوميًّا، وبتنا بحاجة لبعض التواضع كي ندرك أن معلقات التهويم تبدو تلميعًا وحقيقتها انطفاءً بل هجاء كرشاء ابن الرومي الذي طال حين بَعُد الماء.

- البلاغة الإيجاز والمحك الإنجاز.



Ibrturkia@gmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد