Al Jazirah NewsPaper Saturday  12/06/2010 G Issue 13771
السبت 29 جمادىالآخرة 1431   العدد  13771
 
اللامعيارية الإدارية
م. عمر الأيداء *

 

تعكس اللامعيارية حالة من حالات ضعف واختلال القيم والمعايير التي تحكم وتضبط السلوكيات، والتي تشكل المنارة التي تنير الطريق للممارسات المختلفة، فغيابها أو ضعفها، أو حتى عدم تطبيقها بحزم يعطي الفرصة لانحراف الممارسات والسلوكيات.

وتصبح سلوكيات الموظفين وممارساتهم الإدارية المنحرفة، والفساد الإداري، لا تمثل مشكلة فردية تنم عن انحراف أخلاقي لهم، بل ما هي إلا انعكاس لما يدور في البيئة من ضعف واختلال المعايير والقيم، أو عدم التطبيق الحازم لها، إذن فسلوكيات الموظفين تتأثر بالعوامل الخارجية، ويفترض أن الذي سيسلكه من سلوك منحرف نتيجة لتأثره بالبيئة الخارجية، بالإضافة العوامل الفردية، التي لا تظهر إلا متى سنحت لها الفرصة للظهور، والفرصة هنا هي ضعف ووهن القيم والمعايير، أو عدم الجدية في تطبيقها. واللامعيارية كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية «Anomie»، والتي تعني غياب القانون أو الخطة، أو غياب الثقة، أو حالة من الاختلال، أو الشك، أوعدم اليقين، أو حتى وجود القوانين والأنظمة ولكن ضعف في التطبيق، كما أنها تختلف بدرجات أو معدلات مختلفة، تتدرج من بسيطة إلى عالية.

يعتبر المفكر والفيلسوف الفرنسي إميل دوركايم، وعالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون من أهم العلماء، اللذين تحدثا، ووظفا هذا المفهوم حديثاً، واللذين أرجعا الانحرافات بما فيها الانحرافات الإدارية والفساد الإداري إلى وهن وترهل المعايير والقيم التي تحكم وتضبط سلوكيات الموظفين، والتي تشكل كما ذكرنا سابقاً المنارة التي ترشد إلى السلوكيات السوية، وأيضاً أستطيع أن أقول إن عدم تطبيق المعايير والقيم بحزم وعلى الجميع هي نوع من اللامعيارية، والتي تؤدي بدورها إلى الانحرافات والفساد الإداري بجميع أشكاله، من سوء استعمال الوظيفة والمركز الوظيفي لمصلحة شخصية، والاتجار بالوظيفة، والتعدي على المال العام، وتعيين الأقارب والأصدقاء في مواقع متقدمة في الجهاز الوظيفي دون كفاءات ودون وجه حق، ورشوة الموظفين وغيرها من أوجه الانحراف والفساد الإداري المختلفة.

إذن فالفساد الإداري ما هو إلا نتيجة اللامعيارية، وبلغة أخرى ما هو إلا نتيجة ضعف ووهن المعايير، وعدم الجدية والحزم في تطبيق المعايير والقيم، تلك المعايير والقيم التي تضبط سلوكيات الموظفين، وتمنعهم من الفساد والسلوكيات الإدارية المنحرفة.

فجميع المنظمات بغض النظر عن جنسياتها ودياناتها وثقافاتها يسعون لإيجاد المعايير والقيم التي تمنع موظفيها من الوقوع في الفساد والانحراف الإداري، ويجاهدون أنفسهم في المحافظة عليها قوية دائماً، بتطبيقها بحزم على الجميع دون استثناء، وتجنب الصدمات والهزات القوية التي تنجم عن التغيرات السريعة المفاجئة والتي تعتبر أحد أهم أسباب ضعف ووهن المعايير، بالتخطيط المستقبلي السليم المدروس، والتغيير التدريجي المخطط. فالمعايير والقيم السليمة هي هدفهم، واستمرارية قوتها هي شغلهم.

ونحن ولله الحمد وفرت لنا الشريعة الإسلامية تلك المعايير والقيم السامية، والتي أمرتنا بتطبيقها وجعلها نصب أعيننا في أعمالنا الإدارية، فقد نهى الله عز وجل عن الانحراف والفساد في الكثير من آيات الذكر الحكيم، قال تعالى: (وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، وقوله تعالى: (وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ). وقوله تعالي: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) وقوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ).. وفي الهدي النبوي أيضاً هناك الكثير من المعايير والقيم التي تحكم أعمالنا الإدارية، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم « لعن الله الراشي والمرتشي»، وقوله «ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدى إليّ، ألا جلس في بيت أمه وأبيه فينظر أيهدى إليه أم لا».. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من ولى من أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح من المسلمين منه فقد خان الله ورسوله».

ومن مواقف الخلفاء والصحابة وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأحد ولاته عند توليته، بالرعية قائلاً: «افتح لهم بابك وباشر أمورهم بنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملاً «، كما أنه رضي الله عنه يشترط عند توليته للوالي بأن « لا يركب برذونا، ولا يلبس ثوباً رقيقاً ولا يأكل نقياً، ولا يغلق باباً دون حوائج الناس، ولا يتخذ حاجباً»، وفي الهدي الإسلامي الخالد الكثير من الأدلة والمواقف التي تضع لنا المعايير والقيم، وتشكل لنا الطريق السليم لسلوكياتنا، وتحذرنا من الانحرافات الإدارية على يد من يتولون الحكم أو الإدارة أو القائمين على خدمة الرعية.

فالمعايير والقيم موجودة، سطرها لنا ديننا الحنيف، وتاريخنا المشرق الجميل، بالإضافة إلى قيمنا وقيم منظماتنا، ولكن يبقى علينا المحافظة عليها قوية لكي تبقى نبراساً لنا يحكم ويوجه تصرفاتنا وسلوكياتنا الإدارية، ولا يكون ذلك إلا من خلال الرقابة الذاتية لتصرفاتنا لتتلاءم مع تلك المعايير، واستشعار الآجر والثواب من ذلك، ورقابتها وتطبيقها بحزم وقوة دون هوادة وعلى الجميع دون استثناء ووساطة من قبل منظماتنا وأجهزتنا، إذا ما أردنا أن تبقى المنارة التي ترشدنا إلى السلوكيات السليمة.



alaidda@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد