Al Jazirah NewsPaper Sunday  13/06/2010 G Issue 13772
الأحد 01 رجب 1431   العدد  13772
 
وداعاً فارس «الدراما».. الأول؟
د. عبد الله مناع

 

من لا يتذكر «المقدمة» الموسيقية الرائعة في كلماتها ولحنها وأدائها للمسلسل التلفزيوني المصري الأشهر (ليالي الحلمية) في تسعينات القرن الماضي..؟ التي كتب كلماتها شيخ مشايخ الزجالين في مصر (الأستاذ سيد حجاب).. والتي تقول كلماتها:.....

«منين بيجي الشجن.. من اختلاف الزمن

ومنين بيجي الهوى.. من ائتلاف الهوى

ومنين بيجي السواد.. من الطمع والعناد

ومنين بيجي الرضا.. من الإيمان بالقضا

من انكسار الروح في دوح الوطن

يجي اختصار الشوق في سجن البدن

من اختمار الحلم.. يجي النهار

يعود غريب الدار ل»أهل» وسكن

ليه يا زمان ما سبتناش أبريا

ووخدنا ليه في طريق.. ما ممنوش رجوع

أقسى همومنا يفجر السخرية

وأصفى ضحكة.. تتوه في بحر الدموع

ولفين ياخدنا الأنين

لليالي مالهاش عينين

ولفين ياخدنا الحنين

لواحة الحيرانين»... فإنه لا بد وأن يتذكر»الخاتمة» الموسيقية للمسلسل التلفزيوني المصري.. الآخر، الذي يساوي سابقه شهرة ومكانة بين جماهير مشاهدي التلفزيون: مسلسل «زيزينيا».. التي كتبها أشرس شعراء العامية المصرية وأبرعهم، أو نخلة العامية المصرية المعمِّرة: الشاعر أحمد فؤاد نجم.. أو «الفاغومي» كما يسميه مثقفو مصر وأدباؤها، والتي يقول فيها:

«والله عمار يا اسكندرية.. يا جميلة يا مريَّا

وعد ومكتوب عليَّ ومسطر ع الجبين

لاشرب من الحب حبة.. وانزل بحر المحبة

واسكن حضن الأحبة والناس الطيبين

حكاياتك يا زيزينيا حواديت وناس ودنيا

في حواري اسكندرية وليالي المنشدين

واما التاريخ يواكب ويزاحم بالمناكب

يتعبى في المراكب وغناوي الصيادين

هيلا هيلا، وهيلا بيلا.. شيال والعمر شيلة

وهموم الدنيا ليلة.. فيها القمر حزين

ويا موج بحر الليالي عديتك وانت عالي

ودفعت المهر غالي.. بالأيام والسنين».. فهذان المسلسلان (ليالي الحلمية وزيزينيا) اللذان غنى مقدمتهما وختامهما المطرب «محمد الحلو» فأصبحتا أفضل أغانيه.. قاطبة، وإلى الحد الذي جعلهما تطلبان منه في كل حفل يشارك فيه.. هما لكاتب الدراما المصرية والعربية الأول: الأستاذ أسامة أنور عكاشة الذي فقدته مصر والمثقفون والكتاب العرب وإن اختلفت معه قلة منهم.. ك»كاتب مقال»، لا ك»أستاذ دراما».. تخطى كل من سبقوه من أساطين الدراما المصرية ومرجعياتها: من «علي الزرقاني» إلى»يحيى حقي».. بل ومن «محفوظ» إلى «الحكيم» نفسه.. ليحتل المقعد الأول منفرداً - دون منازع - بين كتاب «الدراما» التلفزيونية منها على وجه الخصوص، ب»موضوعه» الحيوي المحوري عن «مصر» وتاريخها السياسي الاجتماعي منذ خمسينات القرن العشرين وما تلاها من عقود، وبتدفقه المدهش، وبحرارة تناوله لتلك «الأحداث» التي لم تكن وقفاً على مصر وحدها بل شملت العرب جميعاً، وبأدق.. أدق تفاصيلها، التي أبكت مشاهديها على وطنية المعلم (زينهم السماحي) وشقيقه الشاب (طه السماحي).. وأضحكتهم على دروشة الدرويش أو (الولي - الشيخ عبدالفتاح).. وأمتعتهم أيّما إمتاع ب»بِشْر» أو»بوتشي»: ابن الثقافتين الإيطالية (عن أمه) والمصرية (عن أبيه)، الذي وظف مكانته الاجتماعية من والدته، والسياسية من»نسيبه» زعيم «الوفديين» في الإسكندرية.. لصالح وطنيته.. عندما نجح في إطلاق سراح أبناء وشبيبة أحياء الإسكندرية الشعبية من «كوم الشقافة» و»باب عمر» وحي «اللبان»، الذين ألقت القبض عليهم قوات الاحتلال البريطاني.. بحجة «المقاومة»، لتعلن تلك اللحظة.. عن تحول «الدلوعة» وابن العز (بِشْر أو بوتشي).. إلى زعيم سياسي وطني يتباهى به حي «كرموز» أكثر أحياء الإسكندرية شعبية، الذي كانت تقطنه عائلة أبيه!!

لقد مات نجم «الدراما» التلفزيونية (أسامة أنور عكاشة)، أو المؤسس «الثاني» لها بعد جيل الرواد، وبصورة مفاجئة.. قبل خمسة عشر يوماً (28 مايو 2010م)، وهو في التاسعة والستين من عمره.. ودون أسباب مرضية تمهيدية من تلك التي تعارف عليها الناس، والتي عادة ما تفضي لهذا «الانتقال» المفزع والمروع والحزين.. من حال إلى حال: من «الحياة» بكل أضوائها وصخبها.. إلى «الموت» بكل صمته وسرمدية أحزانه، لتنعي فاجعة وفاته الصحف والإذاعات والتلفزيونات المصرية والعربية جميعها.. فقد كان حاضراً فيها جميعاً، وليؤبنه المسرحيون والسينمائيون والإذاعيون.. فقد كان حاضراً بينهم جميعاً، وليبكيه الكتّاب والأدباء والشعراء.. فقد كان منهم جميعاً، ولتنوح عليه أسرته التلفزيونية الأولى التي شهدت وقدمت وأخرجت للمشاهدين روائع أعماله.. من كبار الممثلين والممثلات، وشبابهم.. من أمثال يحيى الفخراني وصلاح السعدني وجمال إسماعيل وجميل راتب وحسن يوسف وممدوح عبدالعليم.. ومحسنة توفيق وتيسير فهمي وآثار الحكيم.. إلى مخرجه الأوحد الدائم والمفضل الأستاذ إسماعيل عبدالحافظ الذي أخرج له معظم تلك الروائع: التاريخية السياسية والاجتماعية الإنسانية.. من «الراية البيضا» إلى مسلسل «المصراوية»، الذي حصل جزؤه الأول على جائزة أفضل عمل درامي تلفزيوني لعام 2007م.

لقد كان في كل ذلك الذي كُتب عنه على مدى الخمسة عشر يوماً الماضية.. ما ينصفه ويكفيه ويرضيه ويرضي محبيه دون شك، الذين لا أبالغ.. إن قلت إنهم ب»الملايين» وبامتداد الوطن العربي كله، لأنه ربما كان الكاتب الدرامي الوحيد الذي انتزع لهم بعض صفحات تاريخهم الجميل، وقدمها لهم في أصدق وأبهى صورة.. وأكثرها سطوعاً، قبل أن يواريه «القبرجية» و»التُرَبية» ومحترفو دفن تاريخ الآخرين.. المتربصون به..!!

بل وربما كان ذلك الذي كتب عنه يعفيني وأمثالي ممن يشاركونه الرأي والرؤية.. من الدخول في زحمة الكتابة عنه التي أسعدتني وأثلجت صدري، خاصة.. وأن زمناً قد مضى بين يوم وفاته وأجندة كتابتي الأسبوعية، إلا أنني لم أستطع القبول بالسير في آخر صفوف مودعيه.. لأكفكف أحزاني عليه سراً دون أن يراني أحد، ولو أنني فعلت ذلك لما غفرت لقلمي هذه «الزلة»..!!

نعم لم أكن أرى الأستاذ أسامة.. في كل رحلاتي إلى القاهرة خلال التسعينات من القرن الماضي.. وما أكثرها وأجملها وأغناها في صحبة الصحفي الكبير والصديق الراحل الأستاذ عبدالله إمام.. فقد كان يعيش في «الإسكندرية»، ولا يريد أن يتركها.. أو يبرحها، وكأنه أحد موجوداتها.. ك»مكتبتها» الشهيرة أو»قلعتها» الأشهر أو «فنارها» التاريخي القديم الذي كان إحدى عجائب الدنيا السبع، فقد كان بحرها.. هو سره وحبه. يراه من شرفته ليل نهار، ويسمع سيمفونية أمواجه كلما تقدم المساء.. وأقبل الليل، وهو يحاوره على الدوام.. بالصمت مرة، والآهة مرة، والتأمل طوال الوقت.. ثم يكتب روائعه، ولكن إلى جانب المرات القليلة التي رأيته فيها في القاهرة.. وتشاركنا فيها رشف فناجيل»قهوة» شبرد المركزة والثقيلة التي كان يصر الأستاذ الإمام على تقديمها لضيوفه، والتي كانت تكرب الأستاذ أسامة حتماً.. فيتصابر عليها ب»خفة دمه» وتقديره الكبير للأستاذ الإمام، والتي تجعلني لا أعود من القاهرة في كل مرة إلا ومعي أعلى درجات الحموضة في المعدة، إلا أنني كنت أعيش مع الأستاذ أسامة أعماله الدرامية التلفزيونية الواحد تلو الآخر.. بعد أن أدار رأسي نشوة مسلسله التلفزيوني الأول (ليالي الحلمية)، الذي تجسدت فيه تلك الحالة الدرامية الرائعة.. التي كان يتقن الأستاذ أسامة نسجها بين «المكان» و»الحدث» و»الإنسان» وإلى أن فاجأني كما فاجأ جمهوره العريض.. بعد ذلك ب»مسلسل» الراية البيضاء.. وقصة الخلاف الحضاري الذي تفجر (في زمن السداح مداح) وعالجه الأستاذ أسامة بتلك البراعة التي تعودناها من قلمه: بين من يملكون المال.. ومن يملكون الفكر، والذي انتصر فيه الأستاذ أسامة لمن يملكون المال على من يملكون الفكر.. لا عقب عليه صحفياً وبذات العنوان، مستنكراً عليه استسلامه وتعجله في رفع «الراية البيضاء»، ولكن أثبتت الأيام بأنه لم يكن مستسلماً أو متعجلاً.. بل قدم قراءة استشرافية ل»المستقبل» في ذلك المسلسل.. هي الأصدق والأدق!!

فقد أصبح المستقبل.. راية بيضاء أو ل»الراية البيضاء».. و»حملتها»..!!

إن الأسف والحزن عليه.. ومهما بلغت درجة التفجع فيهما، وفي صدق الدموع التي سكبت عليه يوم وداعه، لا يقدمان قليلاً أو كثيراً لملء «الفراغ» الذي تركه.. نجم كتَّاب الدراما الأول الأستاذ أسامة أنور عكاشة، ولكن من حسن حظ أجيال كتاب الدراما، وشبابها القادم والحالم في أن يكونوا ذات يوم مثله.. أن الأستاذ أسامة ترك من خلفه: مدرسة. معهداً. أكاديمية.. تضم عشرين عملاً درامياً تلفزيونياً (تاريخياً وسياسياً واجتماعياً وإنسانياً) من أعماله، هي المدرسة الحقيقية والفعلية لشباب كتّاب الدراما ليتتلمذوا عليها، ويتدربوا فيها، ويتفقدوا تفاصيل منشآتها، وطبيعة خاماتها.. التي جعلت منها أعمالاً درامية لا تقارن، وجعلت منه.. هذا الكاتب الدرامي الأول، الذي استطاع أن يبني كل أمجاده الدرامية هذه.. خلال ثمانية وعشرين عاماً، فالشاب (أسامة) الذي تخرج من جامعة عين شمس عام 1962م وهو يحمل في يديه ليسانس الآداب (قسم اجتماع وعلم نفس)، والتهمه عالم «الوظيفة» عشرين عاماً.. لكنه لم ينس قلمه قاصاً وروائياً، إلا أنه وجد نفسه بعد «الاستقالة» من الوظيفة والتفرغ للكتابة والتأليف.. كاتباً درامياً تلفزيونياً يسطع اسمه عاماً بعد عام.. ليصبح - في النهاية - كاتب الدراما التلفزيونية الأول في مصر وخارجها.

لكن المثير.. وربما المدهش أن هذا الكاتب الدرامي الذي طبقت شهرته الآفاق، كان يسعده أن يقال عنه الأديب أو الروائي أو القاص وقد كتب الرواية والقصة القصيرة.. بأكثر مما كان يسعده تلك اللوحة التي تظهر على شاشات التلفزيون مع كل عمل من أعماله الدرامية: (قصة وسيناريو وحوار.. أسامة أنور عكاشة)، والتي لن نراها بعد الآن على عمل درامي تلفزيوني جديد من أعماله. فقد مات القاص والأديب وكاتب الدراما الأول..!!

****



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد