«...... ونزلنا في دار «جمجوم»، فرحب بنا، وأنزلنا في منزل طيب، وأحسن إلينا أتم إحسان.... وركبنا في البابور من جدة غرة المحرم العام الرابع عشر بعد ثلاثمائة وألف قاصدين ينبع، وزودنا الشيخ جمجوم بخمس ريالات، وكتب لنا - توصية - إلى صاحبه بينبع إسماعيل المنياوي....»:
|
وإِنْ على آلِ جمجومَ نَزَلْتَ تكُنْ |
ما دُمتَ ثَمَتّ في برٍ وإحسانِ |
لا يبخلون على ضيفٍ بفضلهم |
يَسْلو الغريبُ بِهم عن الأوطانِ |
هذا ما كتبه الفقيه الحافظ محمد يحيى بن محمد المختار الولاتي- المتوفى عام 1330هـ - 1912م، في رحلته إلى الحج عام 1311هـ - 1894م، عن آل جمجوم وعميدهم يومها الشيخ عبد العزيز جمجوم، رحم الله الجميع.
|
ومن بعد - الولاتي - جاء العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجكني - الشنقيطي - عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وعضو رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وصاحب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، وغيره من المصنفات الفريدة - المتوفى عام 1393هـ - دفين المعلا بمكة المكرمة، فكتب في رحلته إلى الحج عام 1367هـ -1947م «.... نزلنا من الغد في جدة، فنزلنا في بيت «لآل جمجموم» عمومي لنزول أهل قطرنا» وعبارة الشيخ الأمين «عمومي لأهل قطرنا» تعنى أن «آل جمجوم» كانوا يُضِيفون حجاج هذا القطر- الشناقطة - جميعا، ممن يفدون إلى جدة في طريقهم لمشاعر الحج، حتى انتشر الخبر في أنحاء شنقيط بأن مكان ضيافة القطر في جدة في « بيت الجمجوم» للعاكف منهم والبادي، وهذا متعارف عليه إلى يومنا هذا- مع ما طرأ عليه من تطوير يناسب العصر-.
|
مناسبة هذا النقل، انتقال معالي الشيخ أحمد صلاح جمجوم إلى رحمة الله بعد ظهر يوم الثلاثاء 25 من جمادي الآخرة من عام 1431هـ - 8 يونيو من عام 2010م، وقد صُلي عليه بالمسجد الحرام بعد مغرب يوم وفاته، ودفن قريبا من شعبة النور بمقبرة المعلا بالحجون، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وتلامذته ومحبيه الصبر والسلوان - آمين.
|
والفقيد يرحمه الله - وهو غنيٌ عن التعريف - من أسرة عريقة من أسر مدينة جدة، فتحت أبواب منازلها لضيافة الحجاج كما سبق الإشارة إليه، وفتحت مكاتبها التجارية لفك ضوائق المنقطعين، ونذرت وقتها بين خدمة الدين وبذل المعروف، وحب الخير للناس أجمعين، بل وقرأنا في سيرتها ما قرأنا قليلا مِمّا عرفنا في أفعال الفقيد الشيخ أحمد صلاح جمجوم، مع نفسه، ومع عموم الناس، وخاصة منهم الغرباء العابرين، وحتى المقيمين لا يسأل يرحمه الله، وهو يمد يد العون لأي منهم، من أي بلد؟ أو جنسية؟
|
أما عن أول معرفتي بمعاليه يرحمه الله، فقد كان ذلك في أوائل عام 1384هـ - 1964م، وكنت وقتها أعمل في جريدة المدينة المنورة متعاونا، أحرر صفحة «دعوة الحق» وهي صفحة بدأتها في فترة» ملكية الأفراد للصحف السعودية» ومسؤولية السيدين هشام رحمه الله ومحمد علي حافظ يحفظه الله، عندما نقلا الجريدة من المدينة المنورة، ليصدراها «يومية» من جدة، ثم انتقلت ملكيتها إلى مؤسسة المدينة للصحافة آخر عام 1383هـ «عهد المؤسسات المستمر إلى اليوم» فكان معالي الشيخ أحمد صلاح جمجوم أول رئيس لمجلس إدارتها، ومديرها العام، وكُنتُ في «دعوة الحق» أتخيّر لها ما أجد في قراءاتي مما فيه إبراز قيم الإسلام، وإشهار محاسنه، وشهادات غير المسلمين من الفلاسفة والمفكرين في ذلك، وكان معاليه وقتها المسؤول الأول في الخطوط السعودية.
|
وفى يوم من الأيام أبلغني أستاذي الشيخ محمد صلاح الدين - وكان وقتها مديرا لتحرير الجريدة، بأن معالي الشيخ أحمد صلاح الدين سأله عن «الشيخ أحمد محمود الذي يحرر - دعوة الحق - فقد أعجبه شيء مما كنت أنقله، وسره نهج الصفحة في الاعتدال، فذهبت في معيته لمكتب معاليه بجدة، وما إن دخلنا عليه حتى بادر محمد صلاح الدين: أين الشيخ أحمد محمود، فقال: هذا هُوَ، فقال: كنتُ أظنه شيخا قد استوى، وابيضّت لحيته- وكنت يومها في العشرين من عمري - فتلقيت من معاليه من الثناء و التشجيع - التشجيع الذي يعرف قيمته وأثره من كان في أول طريق الحياة العملية - على ما أتخيّره «لدعوة الحق» ما كان حافزا لتفرغي للعمل الصحفي فيما بعد، وقال لي: عرفت فالزم- أو عبارة كهذه،.
|
منذ ذلك العام عرفت الشيخ أحمد صلاح جمجوم، وانفتح لي باب مكتبه، وباب منزله- وتلك سجية فطريّة من سجاياه يرحمه الله لمن يعرفه - أزوره وقتما أشاء، فأتلقى منه ما تفيض به نفسه من كرم ضيافة، وحسن استقبال - ومع تطور علاقتي بجريدة المدينة في عهد المؤسسات، لقيت من معاليه بشكل دائم كل دعم وعطف، ويحق لي أن أتمثل قول الشاعر:
|
وَلِى في راحتيْكَ غَديرُ نُعمى |
صَفَت جَنْباهُ واطّرَد الحَبابُ |
وظِلٌ لا يُمازجُه هَجيرٌ |
وصَحوٌ لا يُكدّره ضَبابُ |
وأيام حَسُنّ لديّ حتى |
تساوى الشباب فيها والمشيبُ |
ومنذ معرفتي بمعاليه لم تكن العين تخطىء ما يشغل باله من قضايا دينه وأمته، فكان شغله الشاغل الإسهام بالرأي والمشاركة والبذل - في صمت - لكل ما فيه رفعة دينه، وتجاوز ما يعانيه من تخلف، ويمكن رصد مجالات ومحاور، منها:
|
1- جهوده في توسيع نشاط جمعية تحفيظ القرآن بمكة المكرمة التي أسهم مع أصدقائه: محمد صالح باحارث، ود. محمد عمر زبير ود. عبد الله نصيف وغيرهم في تأسيسها عام 1396هـ، وعرفتُ من عضوها- رئيس جمعية تحفيظ القرآن بجدة المهندس عبد العزيز حنفي، أن منتسبي الجمعية بمنطقة مكة المكرمة من طلبة تحفيظ القرآن الكريم بلغ 166 ألفا عام 1431هـ الحالي- والعدد قابل للزيادة، ومن بين هذا العدد تنتظم جمعية جدة وحدها 50 ألف لهذا العام قابلة للزيادة بنهاية العام.
|
وقد كان في حياته يرحمه الله «حمامة مسجد» لا يفوته الصف الأول في صلاة الجماعة في الفروض التي يكون فيها بمنزله، وكان يتخذ من أقصى الصف الأول على يمين الإمام مكانه للصلاة، فلم يكن إلا قلة معدودة يعرفون أنه هو من بنى هذا المسجد، وهو من ينفق على كافة احتياجاته من الصيانة، وأجور العاملين، كما لم تكن تفوته إقامة الصلوات في مكتبه، فكان يؤم موظفيه وعماله، ويتفقد حضورهم للصلاة، وحسبك من مقام الصلاة في العلاقة بين العبد وربه، أنها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، «فإن صلُحت فقد أفلح وأنجَح» أسأل الله له - وقد أفضى إلى ما قدّم - أن يجعله من المفلحين والمنجحين.
|
ولا أزكيه على الله، فإني أحسبه - إن شاء الله - من أهل الله، أهل القرآن، من محبي كلام الله تعالى: تلاوةً وتدبراً وعنايةً، وكنت أراه وهو يدخل المسجد، بعد أن يحيّيه، ويصلى النفل، يقرأ في المصحف حتى تُقام الصلاة، وقد كان حريصا على أن يحفظ القرآن الكريم، ورأيته يقرؤه على المجازين في القراءات بمسجده، فمقامه مكاناً علياً إن شاء الله، عند آخر آية قرأها- وذلك وعد الله الذي لا يُخلف وعده.
|
وقد تولى - يرحمه الله - لسنوات طويلة رئاسة جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمنطقة مكة المكرمة، حيث تغطي 17 جمعية فرعية مدن ومحافظات ومراكز المنطقة، واختار رجلا ديناميكيا، مخلصا في عمله لإدارة فرع الجمعية بجدة هو المهندس عبد العزيز حنفي والذي اتخذ للجمعية شعار: نعم - القرآن هو الحل، ويكفى لمعرفة ما حققته الجمعية بمكة المكرمة، أنها خرّجت 2800 حافظ للقرآن الكريم عام 1430هـ، منهم 900 حافظ في محافظة جدة وحدها.
|
وقد عرف عن الشيخ أحمد جمجوم يرحمه الله بأنه لا يبخس الناس أشياءهم، وأنه ينسب الفضل لأهله دائما، وفي مجال تحفيظ القرآن الكريم، فهو يذكر بالخير دائما الشيخ يوسف سيت - من الهند، ولاحقا باكستان بعد انفصالها عن الهند، حيث يذكر سابقته بتأسيس أول جمعية لتحفيظ القرآن بمكة المكرمة، وهى نواة الجمعية الحالية على ما أذكر.
|
2 - عنايته بالمساجد، والمساهمة في بنائها: وعندما قدر لي أن أسكن في الحي الذي أقيم فيه بجدة، ولم يكن العُمران عام 1401هـ قد انتشر شمال شارع فلسطين، ولم نكُن نسمع الأذان في حينا لبعد أقرب مسجد عنا، فلما عرفتُ أن معاليه سيعمّر منزله الحالي في الحي، قلت له: إن الحي بحاجة إلى مسجد، وأنا واثق أنه على عَلِم قبل حديثي معه بحاجة الحي للمسجد، فسعى من فوره إلى الأرض المجاورة لسكناه، فاشتراها، وعمّرها، وأنفق من ماله على صيانة المسجد، وتخير لها أحسن الأئمة حفظا للقرآن وتلاوة، وحوّل المسجد إلى حلقات للعلم، يُدرّس فيها ويُحفّظ القرآن الكريم لأبناء الحي، وتُلْقى فيه دروس تفسير القرآن الكريم والمواعظ والرقائق، وشرح أحكام الفقه، وكان أكثر حرصا على أن يختار خطيب الجمعة من أهل المعرفة والفقه والاعتدال، وأخبرني رحمه الله أنه سيعمل على شراء عقار يكون وقفا على المسجد، ينفق منه على احتياجاته.
|
وكنت أرى العديد من الدعاة من مختلف الجنسيات يزورونه في مكتبه طالبين العون لبناء المساجد في بلدانهم، فلا يخرجون من مكتبه، إلا بمساهمته، وهذا أكثر من أن يحصى، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» نِعمت الدار الدنيا لمن تزوّد فيها خيرا لآخرته، ما يُرضي ربه».
|
3 - عنايته بكشف معوقات سير التنمية، وفى مقدمتها « تطوير مناهج التعليم « على أسس الحضارة الإسلامية، وعلى قواعد التراث الإسلامي، وربط الثقافة بالدين ربطا وثيقا في جميع مراحل الدراسة» وكان يرحمه الله مع نفر من المختصين في التعليم وراء تنظيم - المؤتمر الإسلامي الأول للتعليم الإسلامي تحت مظلة جامعة الملك عبد العزيز بجدة عام 1398هـ، والذي كان يهدف إلى إنشاء مركز عالمي للتعليم الإسلامي يكون مقره مكة المكرمة، بهدف صياغة مناهج تحمي أبناء المسلمين من مناهج التعليم اللاديني، والغزو الفكري العلماني، وقد انقطعت عني أخبار هذا المركز، ونشاطاته، ومنجزاته.
|
4 - عنايته يرحمه الله بمَخْرَج ينقذ الناس من التعامل الربوي في البنوك، بإنشاء بنوك تعمل وفق الشريعة الإسلامية، بعيدة عن الربا، وقد رأيناه في ذلك مشاركا ومساهما في كل بنك إسلامي، مع رائد البنوك الإسلامية صاحب السمو الملكي الأمير محمد الفيصل، وقد تركا التنظير، واهتما بالتطبيق، فأنشآ بنك فيصل الإسلامي في عدد من البلاد العربية والإسلامية، ومعهدا في قبرص لتدريب البنكيين من أبناء المسلمين على العمل البنكي الإسلامي، وتحمّلا عِبء التأسيس، حتى استقامت البنوك، وتوفرت كوادرها، واشتد عودها، وتجذّرت فكرتها على الواقع، وأصابت هذه الفكرة الرائدة نجاحا دولياً، فانتشرت بعد- بنك فيصل الإسلامي - البنوك الإسلامية، ودفع نجاحها إلى تبني أكبر البنوك الربوية الغربية فروعا فيها للمعاملات البنكية والمالية على أساس الشريعة الإسلامية.
|
إن إسهام معالي الشيخ أحمد صلاح جمجوم في الشأن العام محليا وإسلاميا عديدة، ولعل غيري ممن كان مشاركا معه يلقي الضوء على شيء من ذلك، ليعرف الناس كم كان هذا الرجل رائدا، متواضعا فيما يعمل، لا يتحدث عن نفسه، يفعل بيمينه ما لا تعرفه شماله، يحتسب جهده ونشاطه لله، وسيكتب له التاريخ في هذا أنصع الصفحات.
|
بقي الكثير مما يقال، ومنه الجانب الخُلقي في سيرة الفقيد الغالي يرحمه الله، فقد تميز بصبر وجلد على العمل، وتفانٍ فيه، والحرص على إتقان ما يتحمله من أعباء ومسؤوليات، وترك المسؤولية عندما يشعر أنه لا يستطيع أن يقدم فيها ما يريح ضميره، ويرضي باله، أو لا يتوفر المناخ المناسب للعمل الجماعي.
|
كان رحمه الله يمتاز بحسن الطوية، وبراءة المقصد، فكأنما يَعنِيه قول نبينا - صلى الله عليه وسلم -» المؤمن غِرٌ كريم» وكان يرحمه الله رفيقا في كل الشؤون التي يتعامل فيها مع الآخرين، ميّال للجدال بالتي هي أحسن، لا فاحِشا ولا مُتَفحشا، نظيف اليد، طاهر اللسان، ترى ذلك في نفسه، وتراه في أصحابه ممن هم أكثر التصاقا به، أهل فضل ومروءة وديانة وتقى» فالرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل».
|
كان يتمتع بروح مرحة، في غير ابتذال، وتواضع من الصغير في غير كِبْر، إذا مدّ له من هو أصغر سنا يد الصداقة، وجد يدا دافئة، ونفسا صادقة، وروحا مخلصة في تعاملها، ليّنة في تعاطيها، لا يشعر الصغير بأنه اسّنُّ منه عمرا، أو أرفع مكانة اجتماعية.
|
مُتبذّل في القوم وهو مُبجّلٌ |
مُتواضع في الحيّ وهو مُعظّم |
أخلاق حميدة، وسجية حسنة، وكأنّه يضع بين عينيه دائما حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن أحبكم إلي وأقربكم منّي مجالس يوم القيامة أَحاسِنكم أخلاقا، الموطأون أكنافا، الذين يَألفون ويُألفون».
|
اشتهر- يرحمه الله - بالإنفاق، لا يرد سائلا، على ما تعارف عليه العرف من انكباب الناس على المنفقين «والمورد العذب كثير الزحام» فترى المحتاجين زرافات ووحدانا حيث يكون: في مكتبه، وأمام داره، وعلى باب مسجد الروضة حيث يصلي، لا يرد أحدا، ولا يتبرم أو يضجر من إلحاح السائلين، يعطي عطاء سخيا.
|
رحم الله الشيخ أحمد صلاح جمجوم، رحمة الأبرار، وعوض ذويه خيرا، وجمعنا وإياه ووالدينا ووالديه، وأهلنا وأهله، وأحبابنا وأحبابه في مستقر رحمته، في الفردوس الأعلى من الجنة، مع نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
|
|