Al Jazirah NewsPaper Thursday  01/07/2010 G Issue 13790
الخميس 19 رجب 1431   العدد  13790
 
وداعاً.. أبا معتز
عبد الباسط شاطرابي

 

مات عبد الهادي الطيب.. السائر في دروب (الجزيرة).. منذ أكثر من ثلاثة عقود، لتفقد الصحيفة أنفاسه.. وبصماته.. وعلاقاته..

.... ووجوده المؤثر بين زملائه.

ستة وعشرون عاماً مضت منذ عرفته.. صارماً في عمله، قوي الشخصية.. متين المنطق والحجة.. وصاحب قدرة هائلة على امتصاص الصعاب ومواجهة الصدمات.

دخل عبد الهادي الطيب الصحافة من بوابة التدريس، فقد جاء للمملكة من فلسطين منذ قرابة نصف قرن، ليعمل معلماً في أماكن قصية، وفي ظروف صعبة، حيث كانت المملكة في مراحل البناء الأولى، ثم جاء للرياض.. مواصلاً عمله في التدريس.. ليلتحق بالجزيرة، مصححاً متعاوناً في الفترة المسائية، بعد أن سبقه بقليل في القسم نفسه الأستاذ محمد عبدالجواد، والأستاذ عبد الوهاب طه، وبعض أسماء أخرى.

كان ذكاء عبد الهادي، وقدراته الإدارية الظاهرة.. وراء اختيار رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك له.. ليكون رئيساً لقسم التصحيح.. رغم عدم تفرغه الكامل للصحيفة آنذاك. فقد عرف الأستاذ خالد، وكان ذلك إبان رئاسته الأولى لتحرير الجزيرة، أن مراحل التكريس الإداري والتحريري للصحيفة، في تلك الفترة الباكرة، تحتاج عناصر بقوة الطيب، وبتوثبه وجلده وذكائه وقدرته الإدارية والعملية الواضحة.

عرفتُ الرجل عن قرب فيما بعد، فقد عملت تحت رئاسته عام 1984م لبضع سنوات في قسم التصحيح، وشهد القسم في تلك السنوات ولوج عناصر قوية من أصحاب القدم الراسخة في المهنة، ليتحول التصحيح إلى ذراع قوي مساند للتحرير، مارس خلاله المصححون ما يمكن تشبيهه الآن بالمطبخ الصحفي، وساهم عناصره في عمليات التدقيق والصياغة، بإشراف مباشر من عبدالهادي الطيب، وبمتابعة من أبي بشار.. الذي كان عاكفاً على بناء الجزيرة.. وحفر مكانها اللائق الذي احتلته حالياً في صرح الصحافة السعودية الكبير.

مرت السنوات، وتفرقت بنا السبل، لكنني بقيت في الجزيرة محرراً متنقلاً بين أقسامها، وتفرغ عبد الهادي الطيب للعمل مشرفاً على التصحيح في مجلة الجيل. وبعد عودة أبي بشار الأستاذ خالد المالك لقيادة دفة الجزيرة.. بدأ عمله الجبار في انتشال الصحيفة من الوهدة التي كادت أن تعصف بها، حيث قادها تارة أخرى بمهارة الربان الخبير، ووضعها على رأس القائمة في الصحافة السعودية توزيعاً ومكانة وشهرة وريادة. في تلك الفترة.. بدأ أبو بشار الاستعانة مرة أخرى بالعناصر القوية.. تحريراً وتسويقاً وإخراجاً.. فعاد عبدالهادي الطيب لموئله القديم، مشرفاً على صفحات الرأي التي تحولت الآن لمسمى (وجهات نظر)، لتكتسب هذه الصفحات زخماً من كتابات القراء والكتاب، ولتنشأ الكثير من العلاقات الودية بين الصحيفة والعديد من كتاب الرأي.. حيث تواصل هؤلاء الكتاب مع صحيفتهم عن طريق هاتف الطيب، بعد أن أفرد أبو بشار المساحات السخية لهم، باعتبارهم الوعاء الفكري الحي، الذي ينقل نبض الناس للمسؤولين، وينمي العلاقة المطلوبة بين الصحيفة وأهل الفكر.

وطوال تلك السنوات، لم تنقطع صلتي بالراحل أبي المعتز، فقد كنت أتواصل معه، وباتت بيننا صداقة وود متبادل، واكتشفت في الرجل - على صرامته وقوة شخصيته - لين جانب واضحاً، وروحاً مليئة بالمرح والمودة، كما اكتشفت قلمه الساخر الجذاب، رغم أنه لم يكن من المكثرين في الكتابة.

وقبل ثلاث سنوات، فجع الراحل، بوفاة ابنه البكر (معتز)، ورغم الصدمة الهائلة التي أحدثها الخبر، فوجئت به قوياً كالجبال، متماسكاً كالصخر، وتجاوز آلامه سريعاً، مكرساً حياته لأحفاده من ابنه الراحل، رغم أن سنوات العمر باتت تفعل أفاعيلها في صحته، وفي جسمه القوي الذي لم تهزمه الأدواء، ولم تقعده الآلام.

آخر عهدي بالراحل شكواه من تورم قدميه، فقد كان - رحمه الله - يعاني من ارتفاع الضغط والسكر، وقد أقلقني ما يشكوه، فشجعته على المزيد من الفحوصات، حيث ظهرت وقتذاك بوادر المشكلات في وظائف الكلى، والتي انتهت به في الشهور الماضية، إلى الخضوع لعمليات الغسيل الكلوي ثلاث مرات في الأسبوع.

قبل شهرين.. اتصلت بالراحل من مكتبي بالصحيفة التي أعمل بها في الخرطوم، فوجدته واهن الصوت، ليخبرني، وبروح معنوية عالية، عن مستجدات صحته، وعن حفيده الذي يدرس الطب بمصر، وعن ابنه (أمجد) في غزة، وعن أسرته المقيمة حالياً بالأردن.

اطمأننت عليه قليلاً، رغم وهن صوته، وشكواه العابرة من جلسات الغسيل الكلوي المضنية. وأقفلت الخط، مؤملاً في اتصال هاتفي جديد.. لم يتم.. ولن يتم أبداً، رحمك الله أبا المعتز.

الخرطوم


shatarabi@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد