Al Jazirah NewsPaper Thursday  01/07/2010 G Issue 13790
الخميس 19 رجب 1431   العدد  13790
 

شيء من
المتشددون والوصاية على المجتمع
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

 

سألني: هل في رأيك أن كل من تمسك بأهداب الدين يكون متشدداً؟

قلت على الفور: لا طبعاً؛ ولكن الأمر يحتاج إلى تفصيل؛ أن ترى أن هذا الرأي، أو هذا القول، أو هذا الاجتهاد، أو أن تجدَ هذه الفتوى هي الأقرب إلى الصواب، فهذا شأنك، وأنت حر في اختياراتك مثلما أن الآخرين هم - أيضاً - أحرار في اختياراتهم. ولكن متى ما انتقل هذا المتشدد إلى التدخل في شؤون الآخرين وحرياتهم و(اختياراتهم)، أو حاولَ فرض (الوصاية) عليهم هنا يبدأ التشدد السلبي، بل والمُدمر. مثل هذه الوصاية على الآخرين من قبل (بعض) المتشددين هي بصراحة ما تُخرجني أحياناً عن طوري، خاصة إذا كان الذي انتدب نفسه للوصاية عليك وعلى ممارساتك الحياتية، أو على (كتاباتك)، من المشهورين بالغفلة والسذاجة وانحدار الوعي والثقافة؛ حتى وإن مارس وصايته بحجة النصيحة. لك أن تختار من الآراء ما تشاء، ولكن للآخرين - أيضاً - الاختيار كذلك، هذا بالنسبة للقضايا (الشخصية) المحضة التي لا يمتد تأثيرها إلى الآخر، أما قضايا العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، فإن المعني بهذا الأمر حصراً هي (الحكومة) من خلال الأنظمة والقوانين، ومنبع القوانين ومرجعها في بلادنا هي الشريعة؛ والشريعة فيها قضايا (توقيفية) وهي كل ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فلا يجوز مخالفتها، وفيها قضايا (خلافية) وهي ما اختلف في أحكامها العلماء؛ مثل هذه القضايا يتم التعامل حسب ما يراه ولي الأمر صاحب البيعة؛ فله دون سواه (حق الاختيار)؛ فإذا اختار فلا مجال للمخالفة، بل السمع والطاعة وإلا انتقل (المخالف) إلى التمرد على الأنظمة والقوانين المرعية في المجتمع؛ أو بلغة الفقهاء (شق عصا الطاعة). كما لك أن تحرم نفسك من وسائل الرفاهية ورغد الحياة بحجة الزهد والتقشف وتعويد النفس على شظف العيش؛ ولك أن تترك باختيارك المحض كثيراً من المباحات، خشية من الوقوع في الحرام؛ لكن أن تعتبر اجتهادك وتقديريك ومعاييرك و(زهدك) هي مقاييس الصحة، وبالتالي تجعل اختيارات غيرك هي الخطأ بعينه، فهذا أمر لا يقبله الشرع والعقل معاً؛ فضلاً عن أنه يدخل في مصادرة حريات الناس التي كفلها لهم الإسلام قبل أن تكفلها الشرائع الدنيوية. ونحن نمر الآن في مرحلة تحول ثقافي من (الرأي الأوحد) الذي لا يقبل رأياً سواه إلى مجتمع الثقافات والآراء والاجتهادات المختلفة، هذا التحول هو نتيجة طبيعية لتطور المجتمعات المعاصرة، وانتقالها من المجتمع البسيط (المجتمع الأبوي)، أو إن أردت: (المجتمع الراكد)، إلى المجتمع الحيوي المتحرك، الذي تختلف فئاته، وتخصصات أفراده واهتماماتهم وقناعاتهم ومصالحهم وعلاقاتهم ببعضهم البعض عما كانت عليه أوضاعهم في السابق؛ أي أن ما نعيشه اليوم هو استجابة طبيعية، ويجب أن تكون متوقعة، للتعليم والتحديث وتعدد الاختصاصات والانفتاح على الثقافات الأخرى ناهيك عن التطور الاقتصادي الذي لا يمكن إلا أن تأخذه بعين الاعتبار عندما تقارن وضعنا اليوم بما كنا عليه في الأمس. وهذا الانفتاح لم يكن كما يتصور البعض أتى نتيجة لقرار، حتى يمكن تغييره بقرار معاكس كما يأملون، وإنما كان نتيجة حتمية لما يمر به العالم من تغيرات، ونحن بالطبع جزء من هذا العالم؛ ولا أحد يستطيعُ أن يقف في وجه طوفان الانفتاح الذي نعايشه الآن. أعرف أن هناك خاسرين من هذا الانفتاح ومتضررين منه، خاصة من أولئك الذين لا يملون من (الصراخ) معترضين هذه الأيام؛ كما أعي تماماً أن هذا الانفتاح ليس خيراً كله، ولكن العاقل والحصيف هو الذي يتماهى مع متطلبات الواقع وظروفه، ولسان حاله يقول:

إذا لم يكن غير الأسنة مركباً

فما حيلة المضطر إلا ركوبها

والاضطرار هنا هو بمثابة شرط الضرورة للبقاء؛ أو بعبارة أخرى ربما أنها أكثر حسماً: إما التعامل مع الواقع بشروطه أو الطوفان. إلى اللقاء.

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد