كل الذكريات قد تمكث في طوايا النفس وفي خلجاتها فترة من الزمن، ثم ما تلبث أن تنمحي من صفحاتها شيئاً فشيئاً إلاّ ذكريات الطفولة وأيامها ولياليها الجميلة، وما يتخلّلها من سويعات لهْو ومرح، فإنها ستظل خالدة في أرجائها مدى العمر..، فأبو مشعل: عبد الله بن محمد بن عبد الله المشعل صديق ود، وزميل صغر بإحدى مدارس الكتّاب لتعلُّم الخط والإملاء وتلاوة القرآن الكريم وحفظ ما تيسّر من سوره وآياته الكريمة عن ظهر قلب على يد المعلم (المطوع)، فله مكانة غالية بأقصى قلبي وبين جوانحي، فكم عشنا متجاورين على تلك المقاعد الطينية، وأحياناً نفترش الأرض بداخل المسجد المجاور لتلك الأرض الفضاء التي قضينا فيها أحلى أيامنا، التي تحيط بجوانبها أسوار عالية وبقايا قلاع وأبراج، وبعض الدور السكنية الواقعة على حافات ذاك المكان الذي نتفيأ ظلاله صيفاً فننتقل من جانب لآخر اتقاء حرارة الشمس ووهج سمومها، والابتعاد عن صقيع الأرض ولوافح الهواء البارد، لأنّ معظم الطلاب في تلك الحقبة الزمنية، لا يملك ولا يلبس سوى ثوب أو ثوبين في الغالب من الثياب السميكة تلبس صيفاً وشتاءً يسمى ثوب (مريكاني)، ولا نسمع اسماً للفنايل ولا السراويل إلاّ نادراً لشح الموارد وقلة العملة الفضية والذهبية آنذاك، ومع ذلك كله مشت أمور الناس وأحوالهم بيسر وسهولة ولم يحسوا بقسوة الحياة ومتاعبها، وكان التعاون بين المواطنين سائداً يتعاونون في إقامة مساكنهم وفي شؤون فلائحهم ومزارعهم بدون مقابل سوى ما يقدم لهم من وجبات الطعام، فالحمد الله الذي غيّر من حال الفقر إلى حال غنى ورفاهية، فما أحلى أيام الصغر على أي حال والشمل جامع لنا، فحياتنا مع صديق العمر أبي مشعل استمرت حتى غيّبته عنا أطباق الثرى حميدة أيامه ولياليه - رحمه الله -، وقد تخلل تلك الأيام والسنين رتل طويل من الذكريات الحبيبة إلى قلوبنا معه، فكنت أقضي معه الساعات الطوال في تلاوة القرآن الكريم والتنافس في الحفظ خارج مكان الدراسة، وإذا دبّ الملل في نفوسنا عمدنا إلى مزاولة بعض الألعاب الشعبية المألوفة لدينا من خامات البيئة، فإن لم يتيسّر شيء من تلك الألعاب مِلْنا إلى المصارعة والمطارحات الحبيبة إلى نفوسنا لاختبار عضلاتنا الجسمية فنجد في ذلك متعة وحلاوة الانتصار، وهذه طبيعة جيلنا في ذاك الزمن، وعندما كبرنا استبدلناها بمزاولة أنواع من الهوايات الأخرى كالجري والتسابق مسافات معيّنة، كذلك نتمارى في إصابة الأهداف في الرماية مستخدمين البنادق القديمة مثل (المقمع والفتيل) ولاسيما في أيام الأعياد، وأنشطة أخرى كالسباحة في البرك وفي مواسم الأمطار بمسارب الأودية وبعض الحفر متوسطة العمق، وهكذا نقضي ساعات الفراغ، أما الآن فقد ذهب بساعات الشباب وأوقاته ولم يبق منها سوى رنين الذكريات.