Al Jazirah NewsPaper Monday  12/07/2010 G Issue 13801
الأثنين 30 رجب 1431   العدد  13801
 
وفاة ما بعد الحداثة.. ولادة الحداثة الرقمية! (2 من 3)
عبد الرحمن الحبيب

 

أياً كنت وبأي موقع في كوكب الأرض، فالحداثة الرقمية تعنيك، إنها تربط الجميع من جبال تورا بورا وتواصلهم مع العالم بأحدث منجزات التكنولوجيا الرقمية إلى مختبرات ناسا المستقبلية.. فلا يهم الثقافة الرقمية كهوف الماضي أو مختبرات المستقبل..

انتهى المقال السابق بطرح مقدمة لآراء الناقد البريطاني كيربي التي ينطلق هذه الأيام من أفكارها مجموعة من النقاد والمفكرين والمبدعين معلنين نهاية ما بعد الحداثة، لندخل في نموذج جديد للمعرفة لا نعرفه. وسيلخص هذه المقال آراء كيربي.

يرى كيربي أن ما بعد الحداثة حل مكانها نموذج جديد للسلطة والمعرفة. فالشروط التي تجري بها المفاهيم كلها تغيرت لصالح ما أطلق عليه الحداثة الرقمية (أو الزائفة)، التي تجعل عمل المتلقي شرطاً ضرورياً للمنتج الثقافي. فقد تحول المتلقي إلى مشارك جزئيا أو كاملاً في تأليف النص، وليس في ذلك ديمقراطية ثقافية أو تفاعل، إذ لا يوجد أي تبادل: بل يدخل المشاهد أو المستمع، يكتب جزءاً من البرنامج ثم يغادر، عائداً إلى دوره السلبي.

ذلك تجده مثلاً في اتصال المشاهدين والتصويت، بل حتى برامج الأخبار، أصبحت تتألف بشكل متزايد من محتوى رسائل الجوال أو الإيميل المرسلة في التعليق على الأنباء. وكذلك السينما في عصر الحداثة الرقمية تبدو مثل لعبة كمبيوتر، فصورها التي كانت تأتي من العالم الحقيقي أصبحت تصنع بشكل متزايد من خلال جهاز الكمبيوتر وكأنها قادمة من الفضاء الإلكتروني.

الرقمية تتجلى بامتياز في الإنترنت كظاهرة ثقافية؛ عملها المحوري هو النقر على (الماوس). تنقلك أصابعك عبر صفحات لا نهائية، بطريقة لا يمكن أن تعيدها، مكتشفاً منتجات ثقافية لم تكن موجودة من قبل، ولن تكون موجودة لاحقاً بنفس أصلها. هذا هو التكثيف المفرط والمشتبك مع العملية الثقافية، مما يعطي شعوراً لا يمكن إنكاره (أو وهما) من مشاركة الفرد في تأليف المنتج الثقافي. لكن صفحات الإنترنت ليست تأليفاً، فلا أحد يعرف من الذي كتب ولا أحد يهتم. فأغلبية مواقع الإنترنت تسمح لك بالإضافة، أو أن تطرح رد فعلك، أو تفتح لك مدونة تكتبها بنفسك، لا أحد يهتم.

عوضاً عن التحسر على الوضع الجديد من المفيد إيجاد سبل لجعل هذه الشروط الجديدة منجزات ثقافية. ومن المهم هنا إدراك الوظيفة المذهلة التي يقوم بها التلفزيون دون كافة الوسائل الثقافية. فالأساسي هو ذاك النشيط المشغول المشارك الذي كان يدعى يوما ما «المتلقي».. الآن أصبح يشعر بالقوة؛ أما من كان يدعى يوما ما (الكاتب) فأمامه خياران: إما أن يهبط إلى حالة من يضع المعالم التي يعمل من خلالها الآخرون (المتلقين) لكي يشاركوه صناعة النص، أو يصبح بكل بساطة غير ذي صلة، وغير معروف، وغائب.. ف «النص» الآن يتميز بسرعة زواله المفرط وعدم استقراره.

كل الأعمال الثقافية أصبحت غير مستقرة وسريعة الزوال. برامج تلفزيون الواقع (مصطلح الواقع ليس مناسباً) لا يمكن أن تعاد في شكلها الأصلي لأن الاتصالات الهاتفية لا يمكن إعادة إنتاجها دون أن تفقد جاذبيتها. وهكذا رسائل الجوال والبريد الإلكتروني والحكومة الإلكترونية وبرامج الإذاعة والألعاب الإلكترونية.. من الصعب للغاية الحفاظ على شكلها الأصلي. إن ثقافة تقوم على هذه الأشياء هي ثقافة لا تمتلك ذاكرة ولن تكوِّن إرثاً ثقافياً مثل ذلك الذي ورَّثته الحداثة وما بعد الحداثة.. إنها غير معادة الإنتاج وسريعة الزوال، لذا فثقافة الحداثة الرقمية شبه فاقدة للذاكرة، وهكذا فالأعمال الثقافية في الوقت الراهن هي بلا إحساس تجاه الماضي أو المستقبل.

المنتجات الثقافية للحداثة الرقمية هي وبشكل استثنائي عادية ومجدبة ثقافياً من السينما إلى رسائل الجوال والبريد الإلكتروني، رغم أننا اعتدنا عليها وتكيفنا معها ثقافياً في التعبير الفني والأدبي. ففي الوقت الحالي ثمة عاصفة من النشاط البشري المنتج أشياء ليست ذات قيمة ثقافية قابلة للاستمرار، وقد ينظر البشر إليها مرة أخرى بعد خمسين أو مئتي سنة ولن يجدوا فيها قيمة ثقافية.

ويمكن إرجاع جذور هذه الحداثة خلال السنوات التي هيمنت عليها ما بعد الحداثة. على سبيل المثال، الرقص والموسيقى وصناعة الصور الإباحية، المنتجة أواخر السبعينيات والثمانينيات، تميل إلى أنها سريعة الزوال، وفارغة المغزى وزراعة أوهام. فالموسيقى الراقصة، صارت للرقص وليس للاستماع أو المشاهدة. وفي الموسيقى الغنائية تهيئ الحداثة الرقمية على قيام المستمع بأن يحل محل الألبوم المتجانس الذي كان يهيمن عليه الفنان، فيقوم المستمع بالتحميل والخلط ومطابقة المسارات في جهاز (آي بود). المشكلة في أن ما كان هواية هامشية للمستمع في القص واللصق أصبحت الطريقة الغالبة للموسيقى المستهلكة، مما يجعل فكرة الألبوم كعمل متماسك ومتكامل فنياً وذو معنى متجسد، قد عفا عليها الزمن.

يمكن القول وإلى حد ما أن الحداثة الرقمية ليست أكثر من مجرد دوافع التحول التكنولوجي إلى ثقافة كانت موجودة دائما ولكنها هامشية وحولتها تلك الثقافة إلى المركز. فالتلفزيون كان دائما يستخدم مشاركة الجمهور، كما في المسرح وفنون العرض الأخرى، ولكنها كانت كخيار وليس كضرورة.

القراءة والاستماع والمشاهدة كانت دائما بها نشاطات المشاركة، ولكن الآن هناك مشاركة فيزيائية لصنع النص في الحداثة الرقمية، وهي أصبحت ضرورة فيما يتعلق بتكوين النص، فضلا عن السيطرة عليه والتي غيرت ميزان القوى الثقافية. إنها تشكل الهيمنة الثقافية الاجتماعية للقرن 21. علاوة على ذلك فإن نشاط الحداثة الرقمية لديها خصوصيتها: فهي الإلكترونية، ونصية، ولكن سريعة الزوال.

ومن هنا جاءت تسميته (الحداثة الزائفة) ضمنا للتعبير عن حدة التوتر بين التطور المذهل للوسائل التكنولوجية، والتفاهة والجهل الذي تنقله محتوياتها.. إنها لحظة ثقافية تلخص بحماقة مستخدم الهاتف الجوال: (أنا في الباص).

في حين أن ما بعد الحداثة تضع (الواقع) في حالة استفهام، فإن الحداثة الرقمية تُعرِّف الواقع ضمناً بأنه أنا نفسي، الآن، أتفاعل مع نصوصه (أي الواقع). وهكذا، الحداثة الرقمية تقترح أنه مهما فعلتْ فإنه هو الواقع، والنص الحداثي الرقمي قد يزدهر حقيقياً بالظاهر على شكل غير معقد: وثائق فقاعية مع كاميرات محمولة باليد تعطي المشاهد وهم المشاركة.



alhebib@yahoo.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد