Al Jazirah NewsPaper Wednesday  14/07/2010 G Issue 13803
الاربعاء 02 شعبان 1431   العدد  13803
 

فن الرواية.. بين دقة الراوي وجهل الناقل

 

الرواية فن من فنون الأدب الشعبي وهذا الفن يعتمد على الموهبة اولا ومن ثم يعتمد على الحفظ الذي يتم عن طريق السماع او الاطلاع ولابد للراوي ان يتمتع بذاكرة قوية تساعده على اختزال ما يقرأ وما يسمع من اشعار وقصائد.

وللرواة طرق مختلفة في طريقة الالقاء.. فبعضهم يروي بالطريقة التقليدية المعروفة وهي الطريقة المتبعة من قبل اكثر الرواة المعروفين. وهذه الطريقة تعتمد على السرد دون التوقف والترديد والإعادة.. وهذه الطريقة تشد المتلقي لأن القصيدة سلسلة مترابطة وكثرة التوقف والشرح والإعادة يقتل المتعة في الاستماع ويفقد القصيدة وهجها. ولكن البعض يتخذ من الترديد والإعادة والشرح مجالا لزيادة الكم خصوصا ما يطرح من قبل بعض المؤسسات الفنية، وللرواية اسس ومعايير فنية لابد من توفرها في الراوي ومنها ان يكو ملما بأوزان الشعر وبحوره بحيث لا (يكسر) او (يلحن) وهذا مع الاسف ما يفتقده البعض ممن يمتهنون الرواية خصوصا من يقرأ من (ديوان) او (مخطوط) ومثل هذا من الممكن تسميته (ناقلا) وليس راويا حيث إنه يقرأ ما يجده امامه دون تدقيق او تمحيص فيقع في اخطاء غير مقبولة مما يسيء للقصيدة ولصاحبها. يقول احدهم وهو يروي احدى قصائد الشاعر محمد العبد الله العوني:

يا دارنا وين أهل المهار المشاكيل

اهل النزول اللي تعد النزايل

فمن الواضح ان الشطر الاول مكسور بسبب الزيادة ولكن لعدم إلمام الراوي لم يلحظ ذلك حيث إن صحة البيت:

يا دار وين أهل المهار المشاكيل

اهل النزول اللي تعد النزايل

وكذلك يقول لنفس الشاعر

قوم يرون الموت هو متجرهم

ومجادل الفرسان حدر انجدالها

وهنا نجد ايضا ان الشطر الاول مكسور بسبب النقص حيث إن صحة البيت لكي يستقيم هو:

قوم يرون الموت هو متجر لهم

ومجادل الفرسان حدر انجدالها

وكذلك يقول من قصيدة غالب بن حطاب

ماطعت قولي يوم انا بالسقيفة

أنت تقول هنا وانا اقول هانا

وهنا وقع الخطأ في الشطر الثاني ومن لديه حس فني يدرك أن الشاعر يقول:

ماطعت قولي يوم انا بالسقيفة

انته تقول هنا وانا اقول هانا

والكسر ربما يأتي ايضا بسبب تقديم كلمة او تأخيرها مثال ذلك قول الراوي من قصيدة لأحد شعراء بني هلال:

إلى ملا منه الوراد قربته

حول على وادي الحجون ومال

فالخلل في الشطر الأول واضح وفيه عك وتحريف ولابد ان الشاعر قد قال:

إلى ملا الورّاد من ماه قربته

حول على وادي الحجون ومال

ومن التحريف غير المقبول ايضا قوله من قصيدة المهادي:

إلى قال منا كلمة بين الورى

في حضرة خوف الزرايا وفي بها

والمهادي لم يقل هذا وانما قال

إلى قال منا خير فرد كلمة

في حضرة خوف الزرايا وفي بها

وهنا اعود واقول بأن الراوي لم يتعمد الخطأ ومن المؤكد ان الخطأ من المصدر الذي اعتمد عليه ولكن هذا لا يعفيه من المسؤولية لأنه يجب على الراوي ان يكون لديه حس فني يجعله يدرك الخطأ ويتداركه وهذا ما يجب ان يتميز به الراوي. وبالإضافة إلى ما سبق يقول الراوي ان رميزان بن غشام وخاله جبر بن سيار هم اول من ادخل الكلمات العامية في الشعر النبطي في الوقت الذي يروي فيه أشعار بني هلال والخلاوي الذين سبقوا عصر رميزان بقرون. وبالإضافة إلى ذلك لابد من التوقف عند احد محترفي الرواية المميزين والذي له اسهامات واضحة في هذا الجانب الا انه ما زال يردد أن قصيدة محمد الريس صاحب القصة المشهورة مطلعها:

يابن رخيص كب عنك الزواريب

عمارنا يا بن رخيص عواري

ولعل اصراره وتكراره لذلك واقحامه اسم (العقيلات) في هذه القصة هو ما دعا إلى العودة لهذا الموضوع. ولعل الجميع من محبي الشعر ومتذوقيه يعرفون ان مطلع قصيده (الريس) هو قوله:

قل هيه يا هل شايبات المحاقيب

اقفن من عندي جداد الأثاري

اقفن بالرخصة كما يقفي الذيب

لا طالع الشاوي بليل غداري

إلى آخر القصيدة.

بالإضافة إلى ذلك فهو يردد ان (عقيل) هم من ينقل الحجاج إلى مكة وهذه مغالطة لا اساس لها من الصحة لأن (عقيل) لا علاقة لهم بذلك فهم اناس جلهم من اهل القصيم يتاجرون بالأبل والخيل بأسواق العراق والشام ومصر وفلسطين ولهم تاريخ حافل في هذا الشأن ليس هذا مجالا لذكره. اما من ينقلون الحجاج في موسم الحج فهم يطلق عليهم (بني رحيل) أو (الجماميل) لأن الابل هي وسيلة النقل آنذاك. ومن المؤكد انهم هم من سينقل الحجاج موسم الحج الأمر الآخر أنه قد ذكر أن شخصا من أهل عنيزة ويدعى (سليمان الصويغ) قد تغرب عن مدينته لسنوات وعند عودته ذهب إلى امير عنيزة للسلام عليه وحينما عاد من الامير وجد ان بيته قد سقط على زوجته وابنه وانه قال في تلك المناسبة شيئا قريبا من الشعر وليس شعرا لأنه ليس بشاعر وبغض النظر عن صحة القصة فإنه لا يوجد مثل ذلك. فإما ان يكون شعرا او نثرا علما بأنه قد اورد تلك الابيات فإذا هي شعرا موزونا مقفى وليس كما ذكر يقول:

حداني عن لذيذ النوم حادي

وعيفني مشاريبي وزادي

وطالعت النجوم بحال سو

تقل مطعون في بعض الهنادي

الا يا الورق لا ذكرت خير

كما انك عارف ما في فؤادي

وذكرتن هوا غرو غرير

كحيل العين مسلوب المقادي

انا وجدي عليها مثل وجد

العرار يوم هو بالسيل غادي

إلى آخر القصيدة التي لا اظن فيها ما يعيبها وزنا وقافية. اعود اقول إنه من الجيد ان يكون الراوي ناقدا وملما بقواعد الرواية واصولها لكي يسلم من بعض الأخطاء التي يقع فيها دون قصد خصوصاً لمن يحترف الرواية بهدف الحفاظ على التراث الشعبي من الاندثار. ومن المؤكد ايضا ان هناك الكثير من الرواة المبدعين في هذا المجال والذي لهم باع طويل في ذلك وسوف اذكر منهم على سبيل المثال الشاعر والناقد والراوية (سعد بن عبد العزيز السليم) أمد الله في عمره والذي يعتبر احد ابرز الاسماء ويعد مرجعا في هذا الشأن فهو وان كان قد تقدم به العمر ولم يعد كما كان الا انه ما زال يحتفظ بذاكره يستطيع من خلالها استرجاع الكثير من الاشعار والمقتطفات الجميلة التي يختزلها في ذاكرته وهو بالاضافة إلى انه شاعر وراوية فهو ناقد بصير وهذه الميزة لا تتوفر الا في قلة من الرواة. وسوف استعرض حادثة تدل على ما يتمتع به من دقة في الملاحظة وقدرة على التمحيص ففي الستينات والسبعينات الهجرية من القرن الماضي كان للشعر وللشعراء والرواة منزلة لدى محبي ومتذوقي هذا الفن حيث كانت القصائد تتردد في مجالس السمر في ظل غياب وسائل الاعلام المسموعة والمرئية آنذاك. ففي احدى الليالي كان احد الرواة المشهورين ممسكاً بورقة ويروي قصيدة وصلته للتو وكانت القصيدة للشاعر (حمد بن عمار) وحينما وصل إلى البيت الذي يقول:

ريحه كما ريح النفل في دعوبه

البارحه ماديج قفر جنابه

واليوم شمس وسكرة من هبوبه

وسط النهار يعطس اللي مشى به

وقد نطق كلمة (يعطس) بالشين حيث نطقها (يعطش) وهو لم يخطئ بذلك لوجود نقط فوق حرف (السين) ولكن العم سعد بحسه الفني وعلو كعبه في ذلك وبعد ان انهى الراوي القصيدة لفت نظر الراوي إلى ان الكلمة (يعطس) وليست (يعطش) ولكن الراوي لم يقتنع بذلك واحتدم النقاش مما حدا بهما إلى الاحتكام إلى مرسل القصيدة وهو الامير (عبد الله بن عقيل) وهذا ما حدث حيث تم ارسال مكتوب له حيث لم يكن هناك وسائل اتصال آنذاك وبعد فترة جاء الجواب الذي افاد انما قاله (سعد) هو الصواب. اوردت هذه الحادثة لكي ندرك ان الرواية فن وموهبة قد لا تتوفر الا لقلة من المهتمين في هذا الشأن علما بأنه ليس بالضرورة ان يكون الراوي بهذا المستوى من الدقة في الملاحظة والسرعة في التقاط المعنى ولكن يجب على الاقل عدم الوقوع في الاخطاء البديهية مثل الكسر واللحن وخلافه والتي من الممكن تلافيها من قبل محترفي الرواية.

وقفة

ياللي تبي تروي لجيل بعد جيل

احرص وبالنطق الموفق سلامة

ترى الخطا مايقبلونه هل القيل

الحي واللي فانيات عظامه

لاشك برق وانتبه واعدل الميل

تسلم من أصحاب الشره والملامة

صالح عبد الكريم المرزوقي

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد