Al Jazirah NewsPaper Saturday  24/07/2010 G Issue 13813
السبت 12 شعبان 1431   العدد  13813
 

ولكن أخلاق الرجال تضيق!
د. عبدالله بن ثاني

 

لاأدري لماذا استحضرت ذاكرتي بيتا لعربي تجري العروبة وقيمها في عروقه بلا زيف ولاتصنع:

لعمرك ماضاقت بلاد بأهلها

ولكن أخلاق الرجال تضيق

صدقا أستحضرته شاهدا في هذه الأيام الخصومة التي تجاوزت أدبيات الحوار والنقاش بين علمين من أعلام الثقافة السعودية وتأثيرهما تجاوز المحلية حتى وإن اختلفنا معهما في بعض الأفكار والرؤى، وهما فضيلة الشيخ الموسوعي أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري والشاعر الكبير الدكتور عبدالرحمن العشماوي، والكارثة أن القضية تجاوزت مبدأ التعايش والبحث عن الحق والحقيقة إلى النيل من الشخصية والإقصاء المتطرف.

الاختلاف سنة من سنن الله في كونه «ولايزالون مختلفين»، ولن تجد أمة مهما صغرت متفقة في مشاربها كلها ويبقى التميز في النقد العلمي والموضوعي بعيدا عن الشخصنة والذاتية لأن التعيير بالماضي من حجج المفلسين سواء أكان بشرب الدخان أو سماع الموسيقى أوبالتاريخ ونوع الجنسية ،فأين الجميع من قوله تعالى: «محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود»، لأن الآثار النفسية التي تنعكس على مستوى الخطاب الثقافي مؤلمة وبخاصة أن النخب الفكرية هي القدوة المثلى للأجيال المتابعة، ولقد آلمني أيما إيلام أن يطعن أحد الخصوم أو أحد ناصريهم بجنسية الآخر وبأصوله معرضا مرة ومصرحا مرات أخرى بأن ذاك واشق أوهجين حتى جاء في بعض الردود: «ولكني لا أرى الجزم أن سعودياً (أصلياً لا متجنساً مثل المردود عليه) وقع في كبيرة الانتماء والولاء لحزب الإخوان المبتدع وغيره. ويحاول أحدهم استعداء السلطة على الآخر مما يدل على المستوى الحضيض الذي وصلت إليه الخصومة، فينبغي على قاماتنا الفكرية ومفاخرنا الثقافية التحلي بالأدب الرفيع والترفع عن سفاسف الإقصاء في الحوار والنقاش أمام أجيالنا التي ترقبنا بحذر لتركز على إعدادها لقبول الرأي والرأي الآخر ونبذ العصبية والتعصب للقبائلية والطائفية وتعزيز الوطنية من خلال غرس قيم الحوار المتمدن المملوء بالعلمية والموضوعية دون التهكم والازدراء بأقدار الله المؤلمة فالإنسان غير مخير في قبيلته وعائلته وجنسيته ،والله جل وعلا ذم المنان قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى?.

وفي الصحيح أن رسول الله قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»، وسمع ابن سيرين رجلا يقول لآخر أحسنت إليك وفعلت وفعلت فقال له ابن سيرين: أسكت فلا خير في المعروف إذا أحصي، وبالتالي فالتركيز على هذه المصائب التي لارأي فيها ولاخيار لبني آدم يعد اعتراضا على قدر الله جل وعلا، وكل الأطراف يعلمون بوعد الرسول صلى الله عليه وسلم لمن ترك المراء (الجدال السلبي) وإن كان محقا، لأن ذلك يعد معوقا من معوقات المدنية والتمدن وشرخا لايلتئم بين طرفين هما بمثابة العينين في الرأس مهما اختلفنا معهما في رؤاهم.. لابد للكبير أن يبقى كبيرا، ولن يكون له ذلك إلا بالعفو وعلينا أن نمارس فضيلة التسامح فيما بيننا.

إن المتأمل في خطابنا الثقافي يقع على عبارات سوقية بين علماء ومفكرين ماكان ينبغي لهم أن يطلقوها على بعضهم احتراما لموروثنا الثقافي وإيمانا بإنسانية واقعنا، فالرد والحوار ظاهرة إيجابية مادامت تسير في مسار محكوم بالشرع والأخلاق والمروءة والقيم العربية، ولذلك لاتتصف الردود بالشرعية والقبول إذا كان لعالم والمثقف ينتصر لرأيه بالنيل من شخص المخالف دون النظر إلى أدلته المعتبرة وغير المعتبرة، مثلما سمعنا عن مصطلحات مقززة وعبارات نافرة في خطابنا الفكري وهي بكل صدق لاتليق بنا ولم تمثلنا في يوم من الأيام، هناك من يريد الحجر على الآخر لأنه سفيه، وهناك من يزدري المخالف بسبب لونه ويتعزى بعزاء الجاهلية الوارد في الصحيح، وهناك من ينصح المخالف ببيع الفواكه والخضار في ازدراء لمهنة شريفة، وهناك من يتهم الآخر بالجهل وقلة الفقه ويستعدي السلطان عليه واجتراره لمخافة الإجماع دونما تأكد، وهناك من ينصح المسلمين بعدم الصلاة خلف ذلك المخالف في صورة إقصائية، وهناك من يرمي الآخر بمداهنة السلطان والطعن في نية المفتي، وهناك من يستغل المنابر لتصفية حسابات شخصية قبل سنين، وهناك من يأمر الشباب بترويع بنات المخالف بحجة إعطائه دليلا من الواقع في صورة لم يرض بها أبو جهل على كفره حينما قال له مشركو قريش في حصارهم لبيت المصطفى: لماذا لا تدخل على محمد وتقتله؟ قال: ويحكم أتريدون أن تتحدث العرب أني روعت بنات محمد.

في رحم العاصفة التي ملأت ذرات غبارها الأجواء وكانت عاملا مساعدا للزكام الأخلاقي الذي عصف بأنوف أجيالنا من مشهد الإقصاء الثقافي وهم يتابعون تراشق المفكرين بالتهم والتجهيل وتنابز العلماء بالألقاب والاسم الفسوق في مسرحية نسي الصديق صديقه الذي كان حبيب الأمس وأنيس الخلوات وتطاولت شخوصها على الأحياء والأموات في قبورهم، وفي وقت عرض تلك المسرحية المأساة بتراجيديتها المؤلمة تقف أجيالنا على موقف أخلاقي في مباريات كأس العالم الأخيرة في جنوب أفريقيا إذ حصل في المباراة النهائية بين هولندا وأسبانيا حينما كشف أندريس إنييستا عن قميصه الداخلي بعد إحرازه الهدف الأغلى ليصبح بطلا شعبيا على مستوى مملكة أسبانيا فهدفه الذي جاء في الدقيقة 116 من الوقت الإضافي لم يمنح أسبانيا لقبها الأول في كأس العالم فحسب، بل كان يحمل قيمة أخوية لصديقه داني خاركي الذي مات في أغسطس عام 2009، بينما كان في غرفته بالفندق، خلال استعدادات فريقه لانطلاق الموسم الجديد، كانت العبارة التي حفرت على جدار التاريخ الإنساني قبل أن يخلع قميص أسبانيا ليظهر تحته قميص آخر أبيض دون أكمام كتب عليه إنييستا: «داني خاركي، معنا دائما».كان خاركي وإنييستا صديقين منذ الطفولة. ولعبا معا في مراحل الناشئين بالمنتخب وكان كل منهما يشعر تجاه الآخر بتقدير جم، ورغم أنهما يدافعان عن فريقين يخوضان صراعا دائما وبلا هوادة ضد بعضهما البعض في فريقين متنافسين هما: إسبانيول وبرشلونة إلا أن العلاقة كانت وطيدة، ولدى إنييستا أكثر من 20 قميصا لخاركي في منزله من جميع المباريات التي تواجها فيها منذ كانا طفلين.

وكان أول من تذكره بعد هدف الفوز هو صديقه، ليعطي القميص حكاية أخلاقية تختلف عن قميص استحضر زورا ليشهد على جريمة ذئب برئ فجاؤوا على قميص الضحية بدم كذب، وقميص آخر قد من دبر جاؤوا به ليشهد على العدالة والكيد العظيم، لتنتصر في كأس العالم حكايات القميص الإنسانية ابتداء من قميص ألقوه على وجه الأب ليرتد بصيرا بعدما شم رائحة غائبه ليشهد أيضا على أنه مهما طال الزمن فستبقى رائحتهم مميزة وكامنة تنتظرها عينان قد ابيضتا من الحزن في صورة تؤكد أن آخر مشاهد العزاء أن نودع الموتى بشم ثيابهم وانتهاء بقميص اللاعب الأسباني أندريس إنييستا.

والله من وراء القصد

abnthani@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد