Al Jazirah NewsPaper Saturday  24/07/2010 G Issue 13813
السبت 12 شعبان 1431   العدد  13813
 

بين الكلمات
شرّ الدواب..
عبد العزيز السماري

 

يكاد القول المشهور لعثمان بن عفان رضي الله عنه: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) أن يختزل مسيرة الصعود والهبوط للحضارة العربية الإسلامية، فقد كان السلطان في بعض مراحل التاريخ الإسلامي صاحب اللجام في تلك الحرب الطويلة بين النقل والعقل، فإن شاء أطلق العنان ليقظة العقل كما حدث في القرون الأولى للإسلام، والتي جاءت ثورة العقل فيها مواكبة لدعوة القرآن الكريم لتفعيل التعقل والتفكير، وإن شاء أحبطها من خلال محاربة أهل العقل والعلم تحت شعار المحافظة على الدين من هرطقات أهل العقل.

كان العرب والمسلمون سادة العالم وقادة مسيرة تحرير العقل من سيطرة الخرافة، فقد أزاح السلاطين أبوجعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون اللجام عن حرية العقل لتصبح بغداد عاصمة العلم في العالم، ولتحتضن أشهر بيت للعلم في التاريخ،.. بيت الحكمة الذي كان بمثابة البوابة التاريخية التي صهرت العلم في ذلك الزمن في قالب عربي، ليكسر عصر الخرافة في أوروبا، ويبدأ عصر جديد بفضل فطنة بعض المستعربين الإنجليز من أمثال باث أديلارد وفراسيس بيكون لما يحدث في الشرق الإسلامي.

يعتبر المستعرب الإنجليزي باث أديلارد أحد أهم المستعربين الذين أجادوا نقل العلوم العربية إلى إنجلترا، وعُرف عنه إجادته للغة العربية وطلبه للعلم في بلاد الحضارة العربية الإسلامية، وكان قد تنقل بين السنوات 1104-1107 بين مصر ولبنان وأنطاكية واليونان والقدس، وجمع معارف في علوم الطبيعة والفلك والرياضيّات.

اهتم المستعرب أديلارد بعلوم السيمياء، والتي برع فيها علماء العرب، ويأتي في مقدمتهم السيميائي العربي العظيم جابر بن حيان الذي وصل إلى نتيجة مضمونها أن كل معدن من معادن الأرض مكون من خلائط مختلفة النسب والمقادير من الكبريت والزئبق ما يسمح بتحويلها إلى هذين العنصرين ثم إعادة ترتيب مقاديرها ودرجات النقاوة النسبية، وقد شكل ذلك الأساس النظري لكثير من التحقيقات العلمية الأولى، وإلى بدء رحلة الألف ميل من عصر السيمياء إلى عصر الذرة، وكانت بمثابة الولادة الشرعية للعلم التجريبي، وقد أطلق وصول السيماء العربية إلى العالم اللاتيني قروناً من البحث في الخصائص الكيمائية والطرائق التجريبية.

السيمياء: أصلها: وِسْمَةٌ، ويقولون: سِيمَى بالقصر، وسيماء بالمد، وسيمياء بزيادة الياء وبالمد، ويقولون: سَوَّمَ إذا جَعَلَ سمة،. وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم في عدة مواضع، منها قوله تعالى: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} البقرة 273، وقد وردت كلمة السيمياء كذلك في الشعر، ومنه قول أسيد بن عنقاء الفزاري يمدح عميلة حين قاسمه ماله:

غُلاَمٌ رماه اللهُ بالحسنِ يافعاً

لَهُ سيمياءٌ لا تَشُقُّ على البصر..

كانت أعظم إنجازات أديلارد تكمن في إدراكه الفطري للتعاليم العربية التي كانت شرارة الانطلاق للوعي الأوروبي الحديث، وقد كانت مخطوطاته تحتوي عبارات من قبل (أساتذتي العرب)، وذلك من باب الإجلال والتقدير لتلك الحضارة العظيمة، ونُقل عنه قوله: تستطيع هذه المعرفة تحرير العالم الغربي من وطأة التقليد.

بعد عودة أديلارد إلى إنجلترا عُيّن معلِّمًا للأمير هنري الذي أصبح فيما بعد الملك هنري الثاني، والذي أتى فهمه لأهمية هذا المنهج إلى بدء رحلة انتقال العلم وتوجيه مصادر الإرث العربي الحضاري إلى خدمة سيادة العالم الأنكلوساكسي، وقد اشتهر أديلارد بتضلّعه من ثقافة العرب الذين آثر مذهبهم في العلم على مذهب الغرب، فقال في كتابه (المسائل الطبيعيّة)، وهو محاورة بينه وبين ابن أخيه: قائدي هو العقل، قد تعلّمت من أساتذتي العرب غير الذي تعلّمته أنتَ، فبهرتك مظاهر السلطة بحيث وضعتَ في عنقك لجامًا تُقاد به قياد الإنسان للحيوانات الضارية ولا تدري لماذا ولا إلى أين... فقد مُنح الإنسان العقل لكي يفصل به بين الحقّ والباطل... علينا بالعقل أوّلاً فإذا اهتدينا إليه لا قبل ذلك، بحثنا في السلطة فإذا جارت العقل قبلناها وإلاّ...)

كان القرآن الكريم بمثابة المحرّض على إعمال العقل والتفكر في الطبيعة، وكان فهم بعض السلاطين العباسيين لذلك القصد سبباً لتكريس الدولة في خدمة العقل والعلم، لكن بعض الفقهاء عملوا على إبطال تلك الثورة العظيمة من خلال رفع شعار الحفاظ على الدين من الفلاسفة وعلماء الطبيعة، وقد وصلوا لغاياتهم من خلال بعض السلاطين الذين كان لهم الدور الأكبر في إحباط ذلك البزوغ العظيم للحضارة العربية الإسلامية، وربما استفاد أديلارد في تشبيهه للناس الذين يضعون على أعناقهم لجاماً وينقادون، بالحيوانات الضارية من قوله عزّ وجلَّ: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) (الأنفال 22).

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد