Al Jazirah NewsPaper Saturday  24/07/2010 G Issue 13813
السبت 12 شعبان 1431   العدد  13813
 
خصوصية
عمر بن عبدالعزيز المحمود

 

لا أظن أن القارئ الكريم يشك في أن لهذه الكلمة أعلاه مفعول السحر عند كل إنسان، فمن منا لا يعشق الخصوصية؟ ومن منا لا يحب أن يكون لديه أمور لا يعرفها سواه؟ حتى لو كانت هذه الأمور عادية. إن شعور المرء بالخصوصية شعور لذيذ، وإحساسه بالاستقلالية أمر بالغ الروعة، ولا عجب أن تجد الواحد منا سرعان ما يفور غضبه إذا تدخل أحد في خصوصياته أو حتى اقترب منها، وأستطيع أن أقول: إن العلاقة بين الغضب والخصوصية علاقة طردية، فكلما زادت درجة الخصوصية ارتفعت فورة الغضب، ولربما عبر عن هذا الغضب بعبارات غاضبة قد تسمعها في بعض المجالس حينما يتجرأ أحدهم ويحاول أن ينتهك حرم هذه الخصوصية المقدسة.

وقد بلغ حب بعض الناس للخصوصية وعشقهم للتميز إلى دفع الأموال الطائلة للحصول عليها والظفر بها ولو كانت زائفة واهية، فكم من آلاف مؤلفة دفعت لشراء رقم جوال مميز أو امتلاك رقم لوحة مركبة خاص، وأعتقد أن هذا الهوس المبالغ فيه يرجع إلى سببين رئيسين، الأول: نظرتهم السطحية للخصوصية، وعدم استيعابهم المفهوم الصحيح والمعنى السليم لها، الثاني: شعور بعض هؤلاء بعقدة النقص التي أدت بهم إلى الإحساس بافتقاد الخصوصية وانعدام التميز، وبالتالي البحث عنها بأي ثمن كانت وعلى أي شكل جاءت.

وإذا كان ما سبق يصور الخصوصية التي ينشئها الفرد ذاتياً فإن هناك صورة أخرى لا تقل أهمية عن ذلك، وهي الخصوصية التي تنشأ داخل إطار العلاقات الاجتماعية، وتجد هذا النوع يبرز في الإهداءات والمناسبات العامة، وهو نوع حساس جداً يفترض أن يراعيه المرء في كل أحد، لأن خصوصية الأفراد الآخرين هنا تكون بيده، حيث يستطيع أن يمنحها لهم كما يستطيع أن يسلبها منهم في ذلك الموقف الخاص. فحين تدعو أحدهم إلى مناسبة زواج مثلاً فليس من المعقول أن ترسل له بطاقة دعوة من دون اسم، وحين تهدي لآخر هدية فمن المفترض أن يوجد فيها ما يدل على أنها خاصة به دون سواه، وحين تهب لثالث كتابا فالمتبادر إلى ذهنه أنه سيجد في مكان ما من صفحات هذا الكتاب إهداء خاصا به يفصح عن مكانته لديك وجلالة قدره عندك. ولذلك تحرص المؤسسات الثقافية والنوادي الأدبية حين تقيم مناسبة ما على إرسال الدعوات إلى المثقفين والأكاديميين مشفوعة بأسمائهم لكي يشعروا بتميزهم، ويحسوا باهتمام الجهة الداعية بحضورهم، بعكس ما لو أرسلت الدعوات عامة دون تحديد لأسماء. أما أكثر الأمور التي تتضح فيها الخصوصية وتشكل لها حضورا بارزا فأعتقد أنها الرسائل الهاتفية التي يتبادلها الناس فيما بينهم سواء أكان ذلك في المناسبات العامة كالأعياد أو غيرها. فأحيانا يرن هاتفك مشعرا بقدوم رسالة جديدة، وما أن تفتحها حتى تنهال عليك عبارات التهاني والتبريكات بمناسبة ما، أو تجد فيها كلمات المدح والحب والاشتياق إلى لقائك، وربما وجدت فيها أبياتاً فيها من التعظيم والتبجيل ما لم يحصل عليه سيف الدولة من المتنبي.

وعلى الرغم من هذا فلا أعتقد أن العاقل الفطن سيطرب كثيراً لمثل هذه الرسائل المستهلكة، ولا أخاله سيصدق هذه الادعاءات الزائفة، والسبب في هذا افتقاد الخصوصية التي تضفي على كلمات هذه الرسالة الصدق الشعوري الذي يجعل متلقي الرسالة يستشعر جمالها وصدق إحساس مرسلها. والخصوصية وحدها هي القادرة على منح الصدق الحقيقي لأمثال هذه الرسائل؛ لأن المرسل ربما يكون قد أرسل الرسالة نفسها لشخص آخر أو أكثر، هذا إذا لم يكن قد بعث بها إلى جميع الأشخاص الذين في هاتفه، وحتى لو لم يكن قد فعل ذلك فليس في هذه الرسالة ما يشعر بأنها لك وحدك؛ ولهذا فلا أقل من أن تضع فيها ما يجعل المتلقي يحس بأنها ما أرسلت إلا لأجله فقط، كأن تنص على اسمه صراحة بين تضاعيف الرسالة مما يستحيل معه أن يعتقد بأنك قمت بإرسالها إلى غيره. وأخيراً فلربما يتوهم بعضهم أن هذا النوع لا يستحق كل هذا الاهتمام، أو أن تناوله بهذا الشكل مبالغ فيه، وقد يظن آخرون أن من يرى هذه الرؤية مفرط في الحساسية، وأؤكد هنا أن الحقيقة خلاف ذلك، فمشاعر الآخرين واحترام خصوصياتهم من الأمور المعقدة التي تتطلب درجة عالية من الحذر والحساسية في التعامل معها، ولو أظهر الجميع خلاف ذلك زاعمين التواضع واللامبالاة.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد