Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/08/2010 G Issue 13825
الخميس 24 شعبان 1431   العدد  13825
 
فكر (نصر أبو زيد) وموقف (الأتباع) العقلانيين!
محمد بن عيسى الكنعان

 

في قالب رثائي يبكي (الحرية الفكرية) المسلوبة ويُذّكر ب(الأصولية الإقصائية) تحت خيمة (تكريم المفكرين في مقابر الخالدين) احتفى بعض الكتاب والإعلاميين والمثقفين بالراحل المفكر المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد (67 عاماً)..

الذي توفي قبل أسابيع في بلده مصر جراء إصابته بفيروس غريب بعد عودته من رحلة إلى شرق آسيا، حيث لم يستطع الأطباء تشخيصه وعلاجه، فدخل في غيبوبة حتى فاضت روحه إلى بارئها. ذلك الاحتفاء الرثائي كان في حقيقته مفارقة عجيبة في علاقة (المفكر التنويري) ب(الأتباع العقلانيين)، وهي مفارقة تبدو وكأن هؤلاء الأتباع يشيدون بالمفكر عن قناعة فكرية راسخة، ويتحسرون على وفاته باعتباره خسارة عظيمة للأمة في مشوارها النهضوي للخلاص من مأزقها الحضاري، منددين بكل من اعترض طريق مشروعه التنويري، سواءً مؤسسة دينية، أو هيئة قضائية، أو شخصيات إسلامية، كالذي حدث للدكتور نصر حامد أبو زيد عام 1993م عندما رفضت بحوثه العلمية بحجة أنها تمثل خروجاً عن الإسلام وتصل إلى حد الكفر؛ كونها تعارض صراحةً سلطة النص الديني المطلقة، لتتطور القضية إلى معركة فكرية وقضائية انتهت عام 1995م بنفي نصر أبو زيد خارج البلاد بعد التفريق بينه وبين زوجته، فغادر مصر إلى هولندا.

في ضوء ما سبق يكمن التساؤل: هل هؤلاء الأتباع بالفعل يسيرون على خطى منهجه الفكري ويؤيدون معتقداته وأطروحاته، أم هم في الواقع لا يجرؤون على تأييده لخطورة أفكاره؟ فيستترون ب(مواقف ضبابية) تتظاهر برفض الوصاية الفكرية خاصةً المرجعية الدينية، والدعوة للتفكير بعقل حر وعدم تسليم العقول للآخرين، وهم في الواقع يكرسون ل(ثقافة الجماهير التابعة) بطريقة غير مباشرة من خلال التعامل بأدوات المناهج الفكرية الغربية في دراسة قضايا العقيدة والتراث، التي لا تخضع للمقدس، أو تراعي الاعتبارات الإيمانية ومركزية المسائل الغيبية. ذلك التساؤل يمكن الإجابة عنه بكشف حالة (التأرجح) لدى هؤلاء الأتباع العقلانيين بالنسبة لفكر نصر أبو زيد، باستعراض بكائياتهم عليه وإشادتهم به، وقبل ذلك التعريف بمنهجه الفكري والإشارة إلى محور أفكاره التي قال بها في مؤلفاته، وكانت صادمة لأهل بلده والعالم الإسلامي أجمع، فكان من الطبيعي أن يحتضنه الغرب كما احتضن سلمان رشدي وتسليمه نسرين وغيرهما.

يتضح الموقف الفكري للدكتور نصر أبو زيد من خلال تعامله مع نصوص الوحي (القرآن والسنة) وفق مدرسة (التأويل العقلي) للنصوص الدينية والتاريخية التي يتبع منهجها، وهي مدرسة غربية تعرف بمصطلح (الهرمنيوطيقا) وتعود نشأتها إلى العام 1654م في الأوساط البروتستانتية متزامنة مع حركة الإصلاح الديني التي تفاعلت وتطورت إبان عصور النهضة الأوروبية. ومصطلح (الهرمنيوطيقا) يُعبّر عنه بمجموعة قواعد ومعايير واجبة التطبيق من قبل المفسر للنص الديني، بحيث يتم تأويله بطريقة خيالية ورمزية تبتعد عن المعنى الحرفي في محاولة لاكتشاف المعاني الحقيقية والخفية للنصوص، وكُتُب نصر أبو زيد شاهد حقيقي على ذلك الموقف الفكري (التنويري)، عندما يعتبر القرآن الكريم (منتجاً ثقافياً) ونصاً لغوياً يخضع الدراسة النقدية والقراءة المختلفة التي تنزع عنه قدسيته ومن ثم تلغي مرجعيته، ففي كتابه (مفهوم النص) يقول: (إن القول بأن النص منتج ثقافي يكون في هذه الحالة قضية بديهية لا تحتاج لإثبات ومع ذلك فإن هذه القضية تحتاج في ثقافتنا إلى تأكيد متواصل نأمل أن تقوم به هذه الدراسة لكن القول بأن النص منتج ثقافي يمثل بالنسبة للقرآن مرحلة التكوين والاكتمال وهي مرحلة صار النص بعدها منتجا للثقافة بمعنى أن صار هو النص المهيمن المسيطر الذي تقاس عليه النصوص الأخرى وتتحدد به مشروعيتها. إن الفارق بين المرحلتين في تاريخ النص هو الفارق بين استمداده من الثقافة وتعبيره عنها وبين إمداده للثقافة وتعبيره لها).

كما يقول في الكتاب ذاته: (لقد صار القرآن هو نص بألف ولام العهد) وكذلك يقول: (هو النص المهيمن والمسيطر في الثقافة)، بل يؤكد هذه الرؤية في مجموعة دراسات تحت عنوان النص السلطة الحقيقة، إذ يقول: (فالنص نفسه -القرآن- يؤسس ذاته دينًا وتراثًا في الوقت نفسه)، وهو بهذا يرد على الأتباع العقلانيين الذين يزعمون أنه يقصد بالنص التأويلات والتفسيرات، بل إن نصر أبو زيد يمضي في كشف مبتغاها في تقرير بشرية النص الديني ونزع المرجعية عنه، ففي كتابه الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، يقول: (وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان). وهو بهذا يتفق مع أصحاب المنهج المادي (الماركسي) التاريخي في الموقف من الإسلام والتعامل مع نصوصه المقدسة. أما موقف نصر أبو زيد من السنة النبوية فيأتي مكملاً لموقفه من القرآن الكريم، فهو يراها (اجتهاداً بشرياً) من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وليست (وحياً)، وأن الالتزام بها إهدار لبشرية الرسول عليه الصلاة والسلام، بل رفعه إلى درجة التأليه؛ لذا هو يشنع على الصحابة الكرام لأنهم برأيه يؤلهون الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو هنا يتساوى مع القرآنيين في موقفه من السنة النبوية.

بعد هذا الاستعراض المقتضب لمحور فكر نصر أبو زيد أشير إلى موقف (الأتباع العقلانيين) الذين جسدوه في مقالاتهم وتصريحاتهم الصحافية. يقول أحد الكتاب: (إن تأثير نصر حامد أبو زيد يأتي من خلال الهزة الكبيرة التي أحدثتها أطروحاته خلال ثلاثة عقود)، والهزة هنا بتقويمها الإيجابي، ويقول الإعلامي اللامع: (رحل نصر والذارفون دموعاً عليه لا يمكن إحصاؤهم فهو أشعل قنديلاً من النور في قلب الظلام الحالك) هكذا يقرر أن واقعنا الفكري منذ نزول الوحي وحتى يومنا هذا (ظلام حالك) وأن نصر أبو زيد الذي يقرر بشرية القرآن قد أشعل النور، بل إن هذا الإعلامي لم يتوان عن اتهام الذين وقفوا ضد أفكار نصر أبو زيد بأنهم حاقدون ومزايدون على الدين. كما يزعم أحد النقاد في أحد الأندية الأدبية أن نصر أبو زيد لم يتجاوز محاولة تطوير ما يسمى علم التفسير، وهو هنا لا يختلف عن أحد كتابنا الذي يقول عن نصر أبو زيد إنه أحد أهم المفكرين العرب الذين قدموا قراءة جديدة للنص. وهذا تسطيح واضح فهل تطوير التفسير أو القراءة الجديدة يكون بنزع القداسة عن القرآن الكريم؟!! أيضاً لليسار العرب حظهم في بكاء المفكر التنويري.. فهذا أحد أقطابهم يقول: (لقد خسر الفكر الإسلامي والمفكرون الإسلاميون بوفاة نصر حامد أبو زيد خسارة لا يمكن تعويضها).

ما سبق يذكرني بذلك الدرس الفكري الرصين الذي قدمه الدكتور حسن الهويمل لأحد شبابنا المتحمسين من كتاب هذا الوطن عن (منهج وأفكار نصر أبو زيد) على خلفية حوار دار بين الهويمل وذلك الكاتب السابح في مناهج العلمانيين في أمسية أدبية، عندما زعم أن منهج نصر أبو زيد لا يختلف عن منهج المعتزلة العقلاني، فكشف له الدكتور الهويمل سطحية ثقافته التي لا تفرق بين المناهج العقلانية، وهي ذات الثقافة التي ما زالت تنتج الأتباع العقلانيين، الذين ينادون ب(عقل حر)، بينما عقولهم أسرى لدى مفكري العرب الذين يقتاتون على موائد الغرب الفكرية.



Kanaan999@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد