شرفة ورد |
جاسم محمد عساكر |
126 صفحة من القطع المتوسط |
من منا لا تستهويه شرفة ورد تضخ عبقها.. وتزين ساحتها ومساحتها.. الورد جميل يذكرنا بربيع الحياة وروح الأمل.. وبالذات حين تتعرى الأوراق على قبضة الخريف فما يبقى إلا غصون عارية تذكرنا بهزال الحب.. وشبح الأجساد الجائعة.. يخاطبنا شاعرنا بأبيات هي المقدمة لديوانه
|
أيها القارئ ما جئت إليك |
كي أغني هائما في لغتي |
إنما ذبت هوى بين يديك |
كي تراني عاريا في رقتي |
فادخرني مثلما شئت لديك |
واحفظ العطر الذي في رئتي |
مقلتاي انسكبت في مقلتيك |
نظرة في نظرة في نظرة |
فإذا جف التلاقي لا عليك |
ستراني من نواحي شربتي |
مدخل ولا أروع منه لعنوان ديوان ولمضامين شعره توحي بأن لشاعرنا تجربة وردية مازلت تؤطر المكان.. وتعطر الوجدان.. من مدخله الجميل إلى قصة غيابها.. وعذابها..
|
تغيبين فالأشياء في صمتها حيرى |
تُصوّب عين الشوق للضفة الأخرى |
كأن الينابيع التي سال أمسها |
إليك حنينا جف في صدرها المجرى |
لتنساب في صدري ينابيع لهفة |
تفجر أضلاعي وتقتلع الصدرا |
لم يكن العذاب لها وحدها.. شاركها لوعة الشوق وفجيعة الغياب..
|
خذيني كما تهوين باقة أحرف |
تميتنها سطراً وتحيينها سطرا |
فمذ غبت لم ألمح على البعد طائرا |
من الشوق مفتونا يزف لي البشرى |
ولم يبق مني غير حلم ورعشة |
وحفنة آمال أشد بها الأزرا |
يا شاعرنا المتألق.. أبقيت لنفسك كل شيء الحلم والأمل.. قلي لي بربك ماذا افتقدت غياب!! يمكن أن يطوي مساحته الحلم الجميل
|
يبدو أن غيابها طال.. وانتظاره لها ملَّ.. لذا فإنه يعاود ضيفه مرة أخرى متسائلاً: (متى تعودين؟!)
|
متى تعودين إن الصبر مقبرة |
بها توسع من هاموا ومن عشقوا؟! |
أتيت مرآة أشواقي ففاجأني |
جفن عليه بحور اليأس تصطفق |
منَ ذا يعيد إلى وجهي ملامحه |
مِن بعد ما أعشبت في وجهي الطرق؟! |
قومي فهذي شموع الشوق ساهرة |
في ليلة العيد تُغنيها وتحترق! |
هل غاب الحلم؟ وهل توارى الأمل على ضبابية الانتظار؟! مازالت الشموع ساهرة لم تنطفئ بعد تبقى الفرصة سانحة لحب لا يموت.
|
أسير الغرام أعلن بنفسه انطفاء حلمه بعد أن تملكه يأس الانتظار.. وبؤس التجربة
|
عطفت على زهور الوجد في روحي ألملمها عن القصف |
فكم مرت على جسدي يد امرأة تشهت قطف أوزاري |
ولكن ما اشتهت قطفي |
ذبلت على غصون الوعد محروما أناجي داخلي عطفي |
هنا أشكو لحرماني.. هنا ابكي على جرحي |
اناديها من الأعماق.. عودي يا ربيع العمر |
قد جفت بي الآمال |
ولمَّا لم تجب ببنت شفة خاطبها وفي أعماقه حسرة مكتومة تكاد تطلق حممها كما لو أنها البركان المتفجر
|
حنانك لملمي ما قد تناثر من أسى خلفي |
فقد ألقاك في دنيا الكرى وجها سماويا |
|
الوجه السماوي أقرب إلى النفس من الوجه الأرضي..! فهل هذا يرضيه؟!
|
يبدو أن شاعرنا أغلق أبواب عشقه.. بعد أن كلّ وملّ وسئم الانتظار.. وكره الصمت:
|
من أين عاد بكِ الحنين ركابا؟ |
ذبل السؤال وما قطفت جوابا! |
هل تاق سمعك لاحتضان قصائدي؟ |
أم حنَّ يغرف أحرفي أكوابا؟! |
أم جف روضك من سحاب عواطفي |
فأتيتني ظمأى أردت سحابا؟! |
ويتساءل عاتبا بل غاضبا |
ماذا سأكتب عن نهاية حبنا |
والقهر عض على العواطف نابا؟! |
ما عدت أدفع من رصيد رجولتي |
قسطا ولا أحيي الغرام سرابا |
رممت مبنى الكبرياء بداخلي |
وأزحت خلف طفولتي الألعابا |
عودي فما حنت إليك خواطري |
إنا سنحيا بالنوى أحبابا.. |
عودتها إليه بعد غياب ثقيل أعادها إليها بعد أن ضاق ذرعا بقطيعتها.. واحدة بواحدة.. والبادية أظلم!
|
أخرجنا من عشقه الطويل الهزيل إلى عشق آخر لا يشيخ على حد قوله:
|
أومأت فانجذب إليكِ مشاعري |
تشتاق صدرا دافئا وحنونا |
وهتفت باسمي فانسكبت قصيدة |
عذراء تنبش حبي المدفونا |
فَلَك الغرام على يديّ أديره |
طوع المراد تحركا وسكونا.. |
بعد أن كان يتوسل ويتسول ويستجدي.. اصبح فارس غرام جديد يملك راية غزوه.. وحركة قياده
|
صبي مشاعرك الدفينة في دمي |
وتفجري بالوجد فيّّ عيونا |
ودعي الوداد بداخلي ينمو به |
غص تفرعّ بالمواجد تينا |
وأعلن معركة الانتصار.. |
هبَّت جيوش محبتي غضبانة |
تطوي الفراق وتطعن السكينا! |
هذا فؤادي قد تصحر ظامئا |
فاسقيه من سحب الوصال مزونا |
ما بيننا انتفض الحنين كأنما |
(ليلى) تطبب (قيسها المجنونا) |
أقسم أخيراً أن لا يبرح صبابته ولا حبه حتى الرمق الأخير من حياته
|
ومن عشق إلى آخر.. كل ما في رحلة شاعرنا حب وصب وألم وأمل ونجاح وفشل. هكذا يتحرك دولاب الشعر بطاقة لا تنفذ
|
أواصل رحلة الأشواق حتى |
تفتق خافقي وردا خضيلا |
واسقي مهجتي شغفا واروي |
من الآمال في روحي نخيلا |
هنالك ترحلين على غرام |
إلى أقصى شراييني رحيلا |
إذا تاهت خطاي على طريق |
قرأتك في زواياه دليلا |
هكذا بعد جوع حب وعطش قلب ثأر من ماضيه ليصب ويصب كما يحلو له دون حساب.. إنها حركة من ذاق الفقر أمام مائدة سخية.. شاعرنا الوجداني عساكر مازال في حلبة السباق يتسلح بعسكره يغلق شبابيك الخيال تارة ويفتحها أخرى:
|
هل تذكرين؟ أنا نثرت شذى الحروف على مسائك |
ثم انطلقت بنشوتي طيرا يرفرف في سمائك.. |
وفتحت شباك الخيال لكي اطل على فنائك |
فلمحت شلال الجدائل مائلا في كبريائك |
فخذي هدايا العطر ترحل من دمائي إلى دمائك |
يختار الربيع لأن عود الحياة يورق فيه.. وتعشوشب أوراق القلب على هبات النسيم وعناق النجوم..
|
هبيني تأسيت عصف الجراح |
وما اشتد من لفحها الموجع |
وأشرعت بابا إلى فرحتي |
وغنيت رغما على ادمعي |
فهل يملك البحر أمواجه؟ |
وينمو الفريق بلا أذرع؟ |
خذيني إلى حقل عمر خصيب |
تبرأ من أمسه البلقع |
تناثرتُ في صدره حفنة |
من الشوق للآن لم تجمع |
يستعرض في هدوء مشاهد وشواهد مرت منذ نعومة أظفار حبه.. كيف شردته غيوم الطفولة دون حضن.. أمانيه تسكنها الفوضى.. الأيام يستوطنها الأنين.. وأخيرا حنين الأمس الذي لا يبرح خياله.. وينتهي به النص وقد تملك سارية الشراع..
|
تجيئين مثل اخضرار الربيع |
يصلي على ساعد المنبع |
فارس رحلتنا هز جذع أيامه كي تتساقط أوراق هيامه.. |
باسمك أنتِ اعتنق الثريا |
وأخلع فوقها شغفا يديا |
وانقش في كتاب الطهر باسمي |
وضيئا يزدهي ألقا سنيا |
كأن العمر مرصوف بشوق |
يُقربّ ما نأى عني قصيا |
ويوغل في حياة حياته التي هي حياته عشقا:
|
حياتي يا حياتي بعض موتي |
وموتي أن يموت القلب حيا |
أرى الأشياء تهرب من عيوني |
وحين أراك تسبقني إليا |
فهزي جذع أيامي تساقط |
عليك الوجد والشغف الجَنيَّا |
كتلة وجدانية متوهجة تستغرق كل محطات استراحاتنا معه.. فما أن تخلص من شباك تفتح.. وأبواب تغلق.. وشرفة ورد.. وسؤال عن العودة.. وغياب طال حتى يجتذبنا إلى مرآة شاعريته على مشهد من عينيها تلك التي كان تزوره..
|
ذكراكِ تحض خافقي |
وتطير في دنيا الأمل |
عيناك تلك تزورني |
أم جرتان من العسل؟! |
يا أنتِ كل عواطفي |
لك لا تريد بكِ البدل |
أخيراً مع شاعرنا جاسم محمد عساكر في ديوانه (شرفة ورد) والذي اصطفى أن يحشو وسادته من مهرجان الورد والزهور..
|
ذكراكِ تطفح فوق سطح شعوري |
براقة.. كاللؤلؤ المنثور.. |
ونشد أوكار المنى بعواطفي |
نغما يهدهد حرقتي وسعيري |
وقطار شوقي ما له من سكة |
تكفي مداه إذا هفا لمسير |
أن يشخصها كمجسم رخامي ابدعته يد فنان.. يمد يده كي تمد يدها.. يعيل صبر وقد جُنَّ به الشوق: وبقصائده الحرمان
|
مدي يديكِ إلى القصائد واقطفي |
ورد الحروف وباقة التعبير |
الشوق سابقني إليك وكلما |
رقصت رؤاك شربت ومضة نور |
ومضة النور وحدها لا تطفئ لهيب الظمأ تنير الدرب نعم.. لكنها لا تملأ الفم المتعطش لماء الحياة..
|
يا واحة الأحلام حاصرني الشذى |
واسأل فيّ رغائب العصفور |
الليل ان سهرت عيوني صاحبي |
والشعر ان كتبت يداي سميري |
والسمع مرمى بانتظارك ربما |
توحين في سمعي هديل طيور |
وعلى مسمع منها يستعرض شريط أيامه الخوالي إلا من سهر الليالي.. يشهق لرنين الهاتف الذي لا يهاتف..
|
تتفايض الهمسات ملء عواطفي |
وتسيل في قلبي مسيل غدير |
والزهر يسقط فوق وجه وسادتي |
فإذا الوسادة مهرجان زهور |
وإذا المكان جنائن وردية |
حولي تفوح بمستطاب عطور |
وإذا العروق اليابسات بداخلي |
عبقت كروض بالورود نضير |
بهذا التوصيف الجميل والتوظيف للمفردات قدم لنا شاعرنا العساكر كتلة متوهجة من نار شعره.. احترق بها حينا.. وتدفأ بحرارتها حينا.. وفي كلتا الحالتين أعطى لنا محصلة شعرية، شعور الوجدان هو موقدها.. ومؤقدها.. واحسب أنها المساحة الوحيدة من ساحة الاستراحة التي كان للقلب العاشق فيها دقاته وخفقاته دون تدخل من أي غرض من أغراض الشعر.. كان ديوانه شرفة وغرفة وحديقة ومساء وحلم وذكرى وباب وعشق وشباك ومهرجان زهور كانت بالنسبة إليه أدبيات يكمل بعضها الآخر.. بين حنين تارة. وأنين أخرى.. بين هزيمة مرة.. وعزيمة لا تصد.
|
الرياض ص.ب 231185 |
الرمز 11321 فاكس 2053338 |
|