هو بالذات، دون كثرة من الناشرين، تجده في انشغال دائم بالمواد الأدبية التي يقدمها مؤلفوها للنشر في داره.. يقرأ ويعيد القراءة مرّات عديدة.. يلاحظ ويصوّب أخطاءَ كتّابٍ من مختلف الطبقات، بعضهم لم ينتبه لأخطائه والبعض يجهل أساساً أنها أخطاء!
يعتني بالهمزات والتاءات وعلامات الترقيم بدقة وإخلاص، ويحرص على تذكير المذكر وتأنيث المؤنث!.. ويتوسع في اعتنائه بالإشارات والإحالات والاقتباسات والاستشهادات.. وحتى ترابط الأفكار والمضمون.. وسوى ذلك من الاعتناء، كأنما كلّ كتابٍ يصدر عن داره هو كتابه الذي يمثله.. بكل ما يعنيه التمثيل من مسؤولية ومساءلة.. ولكنّ الطريف الأغرب أنه (قد) يتساهل في (المراجعة) عندما تكون المادة باسمه، أي عندما يكتب مقالته الأسبوعية أو يؤلّف كتاباً جديداً.. وهل لذلك معنى سوى أنه يخلص لغيره أكثر من إخلاصه لنفسه؟!
تلك هي الصفة النادرة التي تتجلى في هذا الأديب - الناشر - الكبير (عبد الرحيم الأحمدي)، هذا الرجل السبعينيّ الذي يحافظ، باهتمام بالغ، على صداقاته مع كلّ الأجيال الأدبية والثقافية والإبداعية، ويحرص أيّما حرص على تنميتها وتمتينها بنصائح لا يقولها كما يقولها الكبار للصغار.. بل يقدمها على شكل اقتراحات بينما هي ناجمة عن صميم خبرته الطويلة بالكتابة والقراءات..
معرفتي به لا يتجاوز عمرها خمسَ سنوات، ولكنّ فيها من الصداقة الحميمة ما يجعلني لا أنقطع عن زياراته والجلسات المطوّلة معه في مقرّ مؤسسته ودار نشره (المفردات) حيث أراه يمارس أدواراً عدة: فهو القارئ الأول لكلّ كتاب يُقدّم للدار، وهو المقيّم والمصحح والمراجع وغير ذلك من الأدوار، على رغم وجود موظفين لديه لا يعملون سوى ما يشير عليهم به (وعادة ما يصحح بعدهم أيضاً)!
لم يسبق أن نشرتُ كتاباً عنده، ولا أظنني سأفعل (لارتباطي بالنشر في بيروت) ولكني معجبٌ حقاً بما يقوم به؛ فهو يفعل ما لا يفعله الناشرون الآخرون.. وأستغربُ أنّ كثيراً من المؤلفين الشباب لا يقدرون الكمّ الهائل من المساعدات التي يقدمها لهم هذا الناشر الأديب أساساً، ويحسبونها تحصيل حاصل وواجباً من واجبات كل ناشر أياً كان..!
وكموقفٍ رمزيّ يحمل أبعاداً سأذكر أنني كنتُ، مؤخراً، أبحثُ عن شقة سكنية تناسب وضعي الجديد (كمتزوّج سيودّع حياة العزوبية الأزلية - وكان أبو مروان أكثرَ المحرضين لاتخاذي هذه الخطوة المصيرية المتأخرة) و.. لأن الشعراء والأدباء المعاصرين غير معروفين في عصرنا إلاّ عند بعضهم بعضاً! فقد طلب مني (مكتبُ العقار) أن أحضر (ورقة تعريف) من جهة العمل..!
وبما أنني - كقلّةٍ غيري - أعملً (حُرّاً) في كتاباتي ومؤلفاتي.. غير مرتبط بعملٍ آخر (وظيفيّ) فرأيتُ أن أقول لأبي مروان مباغتة: (أعطني ورقة تعريف)!.. والواقع أنني لم أتوقع أن يمتعض أو يتردد، ولكني توقعت أن يسأل - على الأقل - عن حيثيات ومعطيات طلبي لمثل هذه الورقة.. غير أنه أدهشني برفع غطاء قلمه وهو يقول لي: أملني ما أكتبُ فيها..؟!
وكواقعة دلالية تتضمن طرفة أخرى، أقدم منها قليلاً وأراها بمثابة (ظاهرة) في وقتها: قبل عام تقريباً، كان النادي الأدبي في الرياض يقيم ندوة عن (الموسوعات الأدبية) يشارك فيها أبو مروان (عبد الرحيم الأحمدي) والشاعر (أحمد الملا) ويديرها الدكتور عبد الله الوشمي.. وما إنْ فُتح باب المداخلات حتى أمطرت المايكروفونات بأصوات الأديبات الشابات من القاعة النسائية، كلهن تجاهلن محور الندوة ورحن يدبجن عبارات المديح والثناء والعرفان لأبي مروان.. فواحدة تصفه بأنه (الأب الروحي) وأخرى (أطيب أستاذ) حتى كانت الأخيرة مثار استغراب ودهشة للجميع حين وصفته بأنه (ملاكٌ على هيئة بشر)!.. وحينما جاء دوره للرد على كل تلك الكلمات، بدأ قوله بذكاء وهو يخاطبنا ونحن نرمقه (غمزاً ولمزاً!) فأصمتنا باستشهاده بالجزء الأخير من الآية الكريمة: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (119) سورة آل عمران.
خلاصة القول وأهمّه أن هذا الرجل لا يمتهن الأدب - كتابةً ونشراً - وحسب، بل هو يتعامل في كلّ تفاصيل حياته اليومية بأسلوبٍ أدبيّ رفيع ومسؤول.. هذا غير أنه المبدع روائياً، ففي (وادي العشرق) قدّم عملاً مميزاً سبق أن وصفته بمقالة - هنا في الجزيرة - بأنه: العمل الروائيّ الواقعيّ لدرجةٍ تفوق الخيال..!
ختاماً أقولُ: هذه الأشياء كلها من النادر جداً أن يحتويها شخصٌ واحدٌ في زماننا ومكاننا، وهذا يدفعني لعدم الاكتفاء بهذه المقالة عنه، بل أقترح وأتمنى على العزيز الدكتور إبراهيم التركي - مدير تحرير (الجزيرة الثقافية) - أن يعتمد قراراً بإعداد (ملف) عن هذا الأديب الروائيّ الباحث الشاعر الناشر.. بوصفه: المثقف الكبير المستمرّ في تقديم أعمالٍ جليلة لأجيال متعددة؛ فحقّ لنا أن نفخر به ونكرّمه..
ffnff69@hotmail.com