Al Jazirah NewsPaper Thursday  19/08/2010 G Issue 13839
الخميس 09 رمضان 1431   العدد  13839
 
مقتطفات من أقصوصة (ألزهايمر)

 

الإهداء

إلى أصحاب القلوب الذهبية الإخوة والأخوات أصدقاء مرضي «الزهايمر»

مدخل

يقف يعقوب العريان أمام بائعة العطور ليشتري زجاجة من عطر زوجته المفضل «إكسنتركس». تسأله البائعة ماذا يريد ويحاول عبثاً تذكر الاسم. تحاول البائعة مساعدته على التذكر إلا أنه يعجز تماماً عن تذكر اسم العطر، عطر زوجته المفضل. بعد دقائق احمرّ فيها وجهه، وبدت عليه كل علامات الاضطراب، غادر المتجر وهو يعد البائعة، التي تبتسم بعطف، بأن يعود إليها ومعه الاسم مكتوباً.

عزيزتي ،

كان علي أن أخبرك بما حدث بمجرّد علمي. ومتى علمت ؟ قبل شهور، أو ربّما قبل سنة. التفاصيل الصغيرة بدأت تضيع، وقريباً ستضيع التفاصيل الكبيرة. آه ! هل يمكن أن تكبر التفاصيل وتظلّ مجرد تفاصيل ؟

والشياطين كما يقول المثل الغربي، يختفي في التفاصيل..لهذا، ربما، تختفي التفاصيل: يخفيها الشيطان الذي يختفي فيها. حسناً ! كان علي أن أخبرك بمجرد أن قال لي الطبيب إنه يشك، كانت المسألة مجرد شك، في إصابتي بألزهايمر. بدأت أراقب نفسي، بدقّة شديدة. ولم أشأ أن أزعجك قبل أن يكون هناك مبرر للإزعاج. كانت ذاكرتي، كعهدي بها، وكنت أتذكر ما أريد أن أتذكره. لم أنس، قط، عيد ميلادك. يا ألله ! أنت تصغريني بربع قرن ! لم أنس، قط، تاريخ زواجنا ولكن، رجاءً، لا تسأليني، الآن، عن هذا التاريخ. الأرقام ! أَسْرٍ الأرقام ! أسوء أسر يمكن أن يقع فيه الإنسان. أسوً من «قصر النهاية» ، ومن سجون «السي آي إيه» الطائرة بين الدول، ومن قلعة «جوانتنامو» القابعة في كوبا، هدية «دبليو» لبشرية معترفة بالجميل. أسر الأرقام ! أن يأسروك كونك ابنة العشرين فلا تتصرفين إلا كما تتصرف ابنة العشرين. أهناك سجن أفظع من هذا ؟ أن يأسرني كوني في السبعين فلا أتصرف إلا وفق النموذج «المعتمد» لأبناء السبعين. هل هناك قفص أضيق من قيد الأرقام. العم الوقور، ابن السبعين، هل هناك ما يسعده أكثر من أن تعيده امرأة رائعة إلى عهد الصبا كما فعلتِ أنتِ. وأكثر الذين يطلّقون زوجاتهم بعد زواج طويل يحاولون الخلاص من أسر الأرقام، وقد ينجحون موقتاً ولكنهم يفشلون في النهاية. حسناً، كنت أقول لك أن ذاكرتي ما زالت قادرة على التذكر، تذكّر الأشياء الهامة على أية حال. ثم بدأت الأمور تتغيّر. بدأت ألاحظ أن ذاكرتي لم تكن كما كانت. لا ! لا ! لا أقصد أني صحوت ذات يوم وسألت ابننا زهير «هل أنت ؟!» ، أو قلت لابنتنا هيفاء «ما اسمك يا بنيتي ؟!». تغيرت الأشياء على نحو خفي جداً، ومراوغ جداً. ثم بدأت تحدث أشياء محرجة. لا داعي لذكر تفاصيلها. وبعد حادثة من هذه الحوادث أدركت أن الشك لم يعد مجرد شك. حانت ساعة القرار.

*****

عزيزتي ،

أشعر أنه من الضروري أن أعطيك فكرة موجزة عن مرضي. إنه واثق أنك سمعت عنه من قبل ولكني أشك أن لديك فكرة وفية عنه. «ألزهايمر» ، إذا أردنا الدقة. ليس اسم المرض ولكن اسم الجرّاح الألماني الذي اكتشف المرض، آلويس ألزهايمر. في سنة 1906 كان هذا الجراح يشرّح مريضاً عندما اكتشف تلفاً من نوع خاص في خلايا المخ لم يلاحظه أحد من قبل، وسُمّي المرض باسم الطبيب المكتشف. تقتضي الدقة عند الحديث عن هذا المرض أن يقال «مرض ألزهايمر». وقبل أن يحصل الداء على اسمه الجرماني كان يعرف عند العرب باسم» الخرف» أو «العته». إلا أن صاحبنا الجراح اكتشف العلّة في مخ مرض لم يتقدم به السن، بينما الخرف التقليدي مرتبط بأرذل العمر. وهكذا أصبح مرض ألزهايمر يشير إلى الخرف الذي يجيء قبل أوانه. إلا أن الأبحاث الحديثة أثبتت أن مرض «ألزهايمر»

قد يجيء متأخراَ شأن الخرف تماماً. ولا أرى أي مبرر لإزعاجك بالنقاش الطبي البيزنطي حول الفرق بين مرض «الزهايمر» والخرف. ما يهمّنا، يا عزيزتي، أن الله شاء أن أصاب بمرض «ألزهايمر» الذي جاء مبكراً (قليلاَ أو كثيراً ؟). هذا المرض، باختصار، خلل في خلايا المخ، يبدأ بضعف الذاكرة ثم اختفائها وينتهي بالوفاة، مروراً بأعراض أخرى كثيرة أليمة. ويجب أن أسارع فأضيف أن هذا مرض أرستقراطي جداً وأن عدداً من «صفوة الصفوة» في الغرب قد أصيبوا به.

*****

عزيزتي،

أفقت هذا الصباح وأنا أردد بيت المتنبي الجميل:

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا

عندما يصاب الإنسان بمرض لا يشفيه سوى الموت فمن الطبيعي أن تدور خواطر الموت في ذهنه بين الحين والحين. هل تعرفين، يا حبيبتي، أن ذكرياتي الأولى مرتبطة بالموت ؟ أعني الذكريات التي لا يعرفها أحد، الذكريات الخاصة جداً. ذكرياتي هذه ملكي وحدي. خذي، مثلاً، محاولاتي الساذجة، التي لم تكن ساذجة وقتها، أن أظهر بمظهر الطفل الميّت. بدأت هذه المحاولات في الرابعة وانتهت مع السابعة. كانت لعبة عجيبة ألعبها بمفردي. كنت أغلق عيني، وألتصق بالجدار، وأحاول أن أجعل أطرافي تتخشب، وأحاول أن أوقف تنفسي. كنت أرجو أن يكتشف أحد، أيُّ إنسان، الطفل المسكين الذي مات بعتةً، وكنت أنوي بمجر أن يثور الصياح أعود بطريقة عجائبية إلى الحياة. إلا أن محاولاتي لم تفلح في لفت أنظار أحد.

*****

عزيزتي ،

أفكار جديدة تهبط عليّ فجأة. بدا لي أن نسيان الأشياء السيئة لن يكون أمراً سيئاً. الأشياء السيئة ! أوّاه ! هل يوجد أكثر من الأشياء السيئة ؟ أليست الأشياء السيئة في طفولتنا سر العذاب الذي نعاني وطأته طيلة حياتنا، طبقاً للعم فرويد وحتى أعداء العم فرويد ؟ أليست الأشياء السيئة في حياة المراهق والشاب والشيخ سرّ شقاء كل منهم. وهذه الأشياء تلتصق بخلايا الذاكرة بعناد عجيب وتأبى أن تفارقها

*****

عزيزتي،

في خضم الأفكار المظلمة، تراودني فكرة مضيئة كالشمس. ألا توجد قوة تقهر النسيان ؟ قوة تستطيع وقف القاتل المتلصّص ألزهايمر؟ ماذا عن الحب ؟ ماذا عن كلامنا الكثير عن الحب ؟ الحب هو الذي يجعل العالم يدور. الحب أقوى من الموت. الحب يفعل هذا. الحب يفعل ذاك. آه يا عزيزتي ! نقبت في المكتبة وقرأت عن عشرات الأشخاص الذين أصيبوا بالمرض. كان كل منهم يُحِب ويُحَب. إلا أن كل الحب الذي تلقوه، والذي أعطوه لم يستطع الانتصار على اللص القاتل اللئيم. خذي، مثلاً، الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان. كان يحب زوجته نانسي حباً عميقاً من النوع النادر الذي يوشك أن ينقرض. حتى عندما تقدم به المرض ظلّ يعرفها: كانت هي الشخص الوحيد الذي يعرفه. ولكن ماذا حدث في النهاية ؟ حدث أن نسيها كما نسي غيرها. فشل الحب أمام ألزهايمر.

مخرج
السيدة نرمين العريان، يؤسفني أن أبلغك بوفاة صديقي العزيز، زوجك السيد يعقوب العريان، على أثر نوبة قلبية حادة ومفاجئة. وهذه النوبة لم تكن ذات علاقة بالمشكلة التي يعاني منها.

وحيث إن السيد العريان طلب مني إرسال كل أوراقه إليك، فستجدين طية هذه الأوراق.

أقدم خالص التعازي لك وللعائلة.

الدكتور جيمس ماكدونالد - قسم ألزهايمر


 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد