لم أكن أعلم أني ذات يوم سأهيم كل هذا الهيام بالرجل (الضخم)! كما كان يقول عن نفسه. في أيام الجامعة الأولى، وبينما أنا أخطو خطواتي الأولى والجادة في رحلة القراءة، وفي أوج التصنيف الفكري، حذرني أحدهم، كوني طالبا في كلية اللغة العربية، ألا أقرأ نتاج هذا الرجل، حتى لاأصاب بلوثة في عقلي! انتابني الفضول وشعرتُ بحاجة ملحة لقراءة فكر هذا الرجل، فعقدتُ العزم أن أعرف من هو, فابتدأت بكتابه: (استراحة الخميس) فاكتشفتُ فيه سلاسة الأسلوب، والميل إلى الدعابة، وحب المتنبي، وفي مقطع من هذا الكتاب، سُئل في مقابلة صحفية: ماذا تتمنى؟ فقال على الفور: بأن يغفر الله لي! خرجتُ من هذا الكتاب ولا تزال الأسئلة الملحة عن (فكره) تأخذ مجراها في ذاكرتي، فقرأتُ: (سلمى)، ولا يزال المتنبي حاضرا بقوة، عبر مذياع تلك العجوز، وعرجت على: (رجل جاء وذهب)، و(العودة سائحا إلى كاليفورنيا)، ولم أجد شيئا مما قيل عنه! بل وجدتُ حبا يتضاعف لفنه، وأسلوبه السهل الممتنع، وثقافته المبهرة، وحططتُ رحالي عند (شقة الحرية) مالئة الدنيا وشاغلة الناس، فمنهم من يقول: بأن «فؤادا» هو القصيبي، والقصيبي يقول في بداية الرواية: إن شخصيات الرواية ليس شرطا أن يكونوا حقيقيين، وكلامه يذكرني بالروائية الجزائرية: أحلام مستغانمي، التي قالت في روايتها: (ذاكرة الجسد): «الروائيون يسيرون على حافة الحقيقة، وقليل من يحترفها». رواية (شقة الحرية) لم أكن لأقرأها لولا أني قلتُ لأحدهم: مازلت أريد معرفة «فكر الرجل»، فقال: ستجده في تلك الرواية. ولم أجده! وأظن أن الثورة التي كانت ضد هذه الرواية بسبب الأفكار، والنظرات الجديدة التي سبقت عصرها، ولو ولدت تلك الشقة في يومنا هذا لما كانت مدوية كسابق عهدها، ولم أنته من تلك الرواية حتى توجهت ل (العصفورية) والتي مايزال وقع حروفها في وجداني، ولا أزال متعجبا من تلك الاحترافية التي كتبها بها، والقدرة على زج هذا الكم الهائل من المعرفة، حتى أن أحد النقاد لم يعدها «رواية»، وإنما قال عنها «بأنها نص مثقف»، وقد مررت بقراءاتي لمؤلفات «القصيبي» بكتابه الذي شكل في داخلي منعطفا تاريخيا لاأزال أعيشه، وذلك من خلال: «حياة في الإدارة» الذي أكاد أحفظه عن ظهر قلب، فقد علمني الكتاب دروسا تطبيقية في حفظ الوقت، وبذل الوسع في العمل، والجرأة، وكسر القيود البيروقراطية، وضريبة الشهرة، والتعامل مع الأخطاء، وغيرها، فكان بالنسبة لي دستورا إداريا تعجبتُ من عدم تدريسه في جامعاتنا. ولا يعني أن أكون قد قرأت تلك الكتب أن أسلم له بكل ماقيل فيها، بل كانت لي ملاحظات على بعض تعليقاته في كتابه «ثورة في السنة النبوية»، وكتابه الآخر «باي باي لندن». إلا أن هذا لا يلغي جوانب الإبداع التي تمتلئ بها كتبه، ومن لايعمل لايخطئ، وأي الرجال المهذب!
|
ولما عرجتُ على ديوانه الشعري، رأيتُ النفس «النزاري/ الرومانسي» قد تجلى بأحسن صوره.. خصوصا في سنين شبابه.. ولا أظنه -رحمه الله- قد حورب إلا لأنه صريح ويقول مايعتقده، وهو الذي قال عن نفسه:
|
إن ساءلوك فقولي لم أبع قلمي |
ولم أدنس بسوق الزيف أسفاري |
وقصيدته (معركة بلا راية) تنبئك عن هذا، ووجدت له كتابا في النت اسمه (حتى لاتكون فتنة) وفيه خطاب لمجموعة من طلبة العلم إبان حرب الخليج عندما كان الحوار محتدما بينهم في تلك الفترة، ولم أكن أعرف أنه -رحمه الله- كان له رأيه في النقد الشعري حتى قرأت كتابه المعنون ب (بيت) وقد دونتُ كثيرا من آرائه النقدية التي سجلها في هذا الكتاب، وكانت مثيرة لمن يقرؤها، مستفزة لبعض النقاد، واضعا إجابة للتساؤل الذي يقول: هل الشاعر ناقد أم لا؟
|
وفي كتابه «سيرة شعرية» بين أنه لو أراد أن يكون شاعرا فذا لفعل»!! ولم يكتف بكتابة الشعر، ولا بنقده فحسب، إنما اختار قصائد أعجبته ووضعها بين دفتي كتاب، ومن هذه القصائد، قصيدة: «مالك بن الريب التميمي، يرثي نفسه»، وفيها ورد ذكر ل (سهيل) فألهمه هذا بأن يسمي ولده الأكبر (سهيلا)..
|
وكلما قرأت كتابا عجبتُ من غزارة ثقافته، وأكاد أقول: إن كل كتاب أستلهمه، لا أجد فيه تشابها مع آخر، وعجبت أكثر عندما قال في مقابلة صحفية: إن آخر كتاب قرأته هو: (كتاب الأغاني لأبي الفرج) وعدها القراءة الثالثة لهذا الكتاب!! فكيف يقضي الأستاذ الجامعي، والعميد، والوزير، والسفير، والأب، والشاعر، والروائي، والمثقف، والمؤلف، غازي القصيبي وقته بين كل هذا، حفظ الوقت هو الفيصل! وهو الذي قال عن نفسه: «غير مرتبط بأي التزام اجتماعي، حتى لعب البلوت، ليس عندي وقت لها!».
|
إنه كما يقول عن نفسه: كان يقضي وقته بين «المنزل والمكتبة والعمل»، حتى إنه لما عين معيدا في جامعة الرياض/ الملك سعود، لم يكن له مكتب في الجامعة، فكان يقضي وقته في المكتبة من الثامنة صباحا وحتى الثانية ظهرا، ولما أسند إليه تدريس مادة يحس بأنه لا يملك معلومات كافية عنها، سافر إلى بيروت ومكث أشهرا في مكتباتها، حتى يمتلئ معرفة بما يريد أن يحاضر عنه!
|
إن هذا النجاح الذي لف هذا الرجل لم يكن ليتأتى لولا حرصه على الوقت، وهو القائل عن نفسه أيضا: «إن أعدائي قبل أصدقائي، يعلمون أني لم أتأخر دقيقة واحدة عن عملي أو عن موعد ما فضلا عن إلغائه»، ولم يكتف بهذا فحسب، بل وضع لنفسه بصمة في عالم ترجمة الكتب، فقد ترجم كتاب (المؤمن الصادق) ل «إيريك هوفر»، وهوالذي جعل الدكتور: سلمان العودة في برنامج (حجر الزاوية) يثني على هذا الكتاب كثيرا وعلى ترجمته الثرية..
|
ومهما طاف تجوال المرء في هذه الحياة، ومهما تعددت أماكن سكنه، في البحرين ابنا يتيما فقد أمه، ويسأل أباه: هل نحن فقراء؟ وفي مصر طالبا في كلية الحقوق، وفي أمريكا وبريطانيا طالبا في الدراسات العليا في العلوم السياسية، وفي وطنه أستاذا جامعيا، ورئيسا للسكة الحديدية، ووزيرا للصناعة والكهرباء، ووزيرا للصحة، وممثلا عن بلده سفيرا في البحرين وبريطانيا.. كل هذا الضجيج، ستحل ساعة يكتب فيها (المواسم)، الذي ما إن انتهيت من قراءته حتى خشيت على نفسي أن أموت جزعا وحسرة، وستحل ساعة يكتب فيها قصيدة (حديقة الغروب)، والتي أحدث ضجيجا، لما كتبها قبل خمس من السنين، مما حدا بالأديب الشاعر:
|
عبدالله بن إدريس، أن يكتب قصيدة يطمئن فيها غازيا، لكن هذا الشاعر المرهف قد أحس بمصيره، وقرب أجله..
|
شكرا أيها الأعداء.. أعداء هذا الطود الشامخ، فقد قرأت كل هذا له، شكرا لكم جميعا فقد جعلتموني أدعو له بالرحمة في كل ساعاتي.. شكرا لكم عدد ماحذرتم منه، وهو القائل عن كتبه الممنوعة: «إنها أكثر رواجا من الكتب التي تباع في العلن» !!..
|
أيا رب! إن عبدك «غازي القصيبي» قد أحب لقاءك، فاغفر له وارحمه واجعل قبره روضة من رياض الجنة..
|
يا عالم الغيب ذنبي أنت تعرفه |
وأنت تعلم إعلاني وإسراري |
وأنت أدرى بإيمان مننت به |
علي ماكدرته كل أوزاري |
أحببتُ لقياك! حسن الظن يشفع لي |
أيرتجى العفو إلا عند غفار؟ |
فكم أحسستَ بدنو رحيلك وأنت القائل:
|
بعض الدروب إلى الأوطان راجعة |
وبعضها في فضاء الله ينساب! |
رحمك الله.. ورحم حروفك التي تقول:
|
لاتهيء كفني! مامت بعد |
لم يزل في أضلعي برق ورعد |
|
|