Al Jazirah NewsPaper Thursday  19/08/2010 G Issue 13839
الخميس 09 رمضان 1431   العدد  13839
 

صلى عليك (الطهرُ) يا غازي !!
خالد بن أحمد الرفاعي

 

من السهل أنْ يرثيَ أحدُنا بالشعر أو بالنثر راحلاً عُرِفَ بسياقٍ واحدٍ، كأنْ يكونَ داعيةً، أو عالماً، أو أديباً، أو باذلاً، أو ما شئنا من سياقات الفضل الباسقة، لكنّ أقدرَنا على الكلام الفصيح سيجد لسانه منعقداً وهو يرومُ الحديثَ عن رجلٍ ضاقت به السياقاتُ على اتساعها وتعدّدها..

وهكذا يشعرُ كلُّ من يريد الحديثَ عن غازي القصيبي -رحمه الله-؛ إذ إنه الناظمُ الرشيقُ، والشاعرُ الجميلُ، والمقاليُّ المعتّقُ، والروائيُّ المفاجئ...، ومن قبل ذلك كله هو الأكاديميُّ المؤصّلُ، والدبلوماسيُّ المحنّكُ، والوزيرُ الغزير...، وما من شكّ في أنّ الحديثَ عنه يتطلّب الإلمامَ التامَّ بسير غزاةٍ متعدّدين، كلُّهم انتصروا في غزواتهم ولم يُهزم منهم أحد.

هكذا يبدو الحديثُ عن غازي وأمثاله صمتاً مجلّلاً بالدهشة، وكلاماً طويلاً تختصره كلمة (إنسان)، بكلِّ ما تحمله هذه الكلمةُ من معنى، لكنني رغمَ ذلك كلِّه أفضِّل أنْ يأخذَ الحديثُ عن غازي بعد رحيله المرِّ مساراً جديداً، يجعلنا أكثرَ قرباً من غازي الشخص، بدلاً من الغزاة الشخصيات، وأكثرَ قدرةً على التجوّل في مدائن أفعاله بعد سنواتٍ طوالٍ قضيناها سائحينَ في حدائق أقواله شعراً ونثراً، فغازي لم يكنْ ثرثاراً ولا متشدّقاً ولا متفيهقاً، ولم يكن من الذين يقولون ويقولون ثم يقعدون مع القاعدين، وإنما كان رجلَ موقفٍ وكلمةٍ وفِعال، وكان من الذين يقولون ويفعلون، لولا أنه كان يفعل أحياناً أكثرَ مما يقول، ويلمُّ من الجراحاتِ فوقَ ما يشكو، ويحبسُ من الدمع أضعافَ ما يرسل، ولنْ أكون مبالغاً إذا قلت: إنّ أفعاله كانت سبباً في ترويج أقواله، وصبغِها بلونٍ خاصٍ ومذاقٍ جميل، تماماً كما هو الشأنُ مع الكبار الكبار، الذين يغذّون الزمنَ أكثر مما يتغذون به.

لذلك لا أرى ما يدعو إلى البكاء والتفجع والرثاء، فغازي بكى نفسه بالإنابة عنا منذ (حياة في الإدارة)، ورثى أيامه بدلاً منا ب (حديقة الغروب)، كلُّ ذلك ليمنحنا بعد رحيله فراغاً واسعاً، يساعدنا على تتبع آثاره، تلك التي جعلته -وستجعله أبداً- إماماً من أئمة التنوير في بلادنا وفي البلاد العربية كلِّها، وهو -بالمناسبة- تنويرٌ حقيقي، وليس كلاماً عابراً يرجع على أصحابه دراهمَ وأضواء!!

دروس غازي أكثر من أن تحصى، وأهمّها الآتي:

الدرس الأول: النزاهة، فلقد استلم غازي عدداً من الحقائب الوزارية، لكنه ظلّ إلى جوارها نزيهاً حدّ الاستثناء، فلم يلمس أحدٌ منا ما يمكن أنْ يزعزعَ ثقتنا في نزاهته الجميلة...، لقد مرّ بمناصب ذهبية وغادرها دون أنْ نجدَ تمدداً لأقاربه وأحبابه في هياكلها، وفي سياق آخر لم يستطع أحدٌ أنْ يجدَ له من الأنشطة التجارية ما يوازي هذا الاتساعَ الوظيفيَّ الكبير (سقى الله قبرك يا غازي؛ فلو حصّل بعضُنا كرسياً واحداً من كراسيك الثمانية؛ لحاز ثروةً تنوءُ بحملها العصبةُ أولو القوة).

كان غازي أميناً، وأمينا أيضاً، وكان في حربٍ دائمةٍ مع رغباتِ نفسه، وأهوائها، ووسوساتِ الشياطين، لكنه انتصرَ كعادته، فخرج من الدنيا كما دخلها، خلواً إلا من نظارةٍ مقعّرةٍ، وعباءةٍ شفّافةٍ، وبقايا أوراقٍ، وخيالٍ جميل.

كثيرون اختلفوا مع غازي، وبعضهم خلق من اختلافه معه خلافاً، لكنَّ أحداً منهم لم يستطع أنْ يطعنَ في أمانته، أو أنْ يدينه ب (محسوبيات) أو (تساهيل)، لا لأنهم أولو عفة ومروءة، ولا لأنّ الأعينَ عميتْ والراصدينَ ماتوا، ولكنْ لأنهم لم يجدوا طريقاً واحداً إلى غازي!!

لقد ضرب غازي لنا أمثلة خضراء في النزاهة ونظافة اليد وانتعاش الضمير، بعضها يمكن أنْ يكونَ أسطورةً يتسلى بها أبناءُ الجيل القادم، ويكفيه فوزاً أنه لم يشربْ مع قهوة الصباح (أرضاً) كان من الممكن أنْ تكونَ (حديقة)، ولم يفطر بعد صومة كاذبة على (مشروع) كان من الممكن أنْ يكون شرياناً لأبناء وطنه، بل إنه لم يمدد يده لما هو أصغر من ذلك بكثير، فحين كانَ سفيراً لبلادنا في البحرين مرت به أزمة الخليج، فأخلص في تطمين أبنائنا المقيمين هناك، وبذل الكثير والكثير في تتبع حاجاتهم ومتطلباتهم، وحين وصلته (الكمّاماتُ) من هنا قام بتوزيعها على المواطنين واحداً واحداً، ورفض أنْ يدخلَ بيته منها شيء!! أرأيتم نزاهةً تعدل هذه النزاهة؟ وخوفاً من الله يشبه هذا؟!

إنّ هذا الدرسَ يكاد يكونُ أجلّ دروس غازي وأجملَها، ولو وعاه المسؤولون حقَّ الوعي؛ لرأيتنا في حالٍ خيرٍ من حالنا.

نزاهة غازي تجاوزت حفظ يده من أن تقترف حراماً، إلى ما هو أكبر من ذلك بكثير، إلى حفظ المال نفسه من أن يذهب سدى، أو يتبخر في مساقاتٍ ملتوية مظلمة، ومما يجهله الكثيرون أنّ قدْراً من المشاريع التي قام بها غازي في وزاراته لم تتطلب ريالاً واحداً!!

هل تصدقون؟ لم تتطلب ريالا واحداً!! وسأضرب لكم مثالا على هذه المشاريع النزيهة: حين كان غازي وزيراً للصحة استشعر دورَ الإيمان في عملية الاستشفاء، ففكر في وضعِ لوحاتٍ في غرف المرضى تتضمّن آياتٍ من القرآن الكريم، وأحاديثَ نبويةً شريفةً، ورأى أيضاً أنْ يضعَ إلى جوار كلِّ مريضٍ نسخةً من القرآن الكريم، وكان هذا المشروع كافياً لتضييع ملايين الريالات عند من لا يخشى خالقاً ولا مخلوقاً، لكنّ نزاهةَ غازي وذكاءه اجتمعا فأمضيا هذا المشروعَ بلا مقابل!!

لم يفعل غازي أكثر من كتابة خطاب إلى سماحة الشيخ ابن باز –رحمه الله– يطلب فيه أن يمدّه بالمصاحف وبآلاف النسخ من كتابٍ رصينٍ للأذكار ابتغاء وجه الله تعالى، ثم طلب من (أرامكو) أن تهديَ إلى وزارته لوحاتٍ تتضمن الآياتِ والأحاديثَ ابتغاء وجه الله أيضاً، وكان لغازي ما أراد، فانهالت عليه المصاحف والأذكار واللوحات، ونهض على ساعديه مشروعٌ إيماني وصحي كبير، ما زلنا نتفيأ ظلاله كلما زرنا مستوصفا أو مستشفى...، كلُّ ذلك دون أنْ يكلِّفَ خزينةَ الدولةِ ريالاً واحداً.

إنه الإخلاصُ، والإرادةُ، والإدارةُ، حين تجتمع في رجلٍ واحد، وإنه التديّنُ الحقيقيُّ حين يستقرُّ في قلبِ المرء فيجعل منه بحراً يموجُ بالعطاء ولا يهدأ!!

الدرس الثاني: السماحة، فقد كان غازي سمحاًً حين ينتقد أحداً وحين يتلقى النقدَ من أحد، وكان سمحاً في تعامله مع الناس، ولقد كان مضربَ مثلٍ في هذا السياق، فسماحته لم تكنْ سذاجةً ولا غباءً، ولم تكن مفضيةً إلى تضييع واجب، أو استخفاف بأداء أمانة، وإنما كانت حكمةً من نوعٍ فريد.

ولدت السماحةُ بميلاد غازي، ولم تفارقه حتى وسِّد في التراب دفينا، ومن يتدبر تعامله مع طلبته في الجامعة مطالعَ السبعينيات يجد السماحة في أبهى صورها، فقد كان قريباً من طلبته حدّ الأبوة أو أكثر، واعياً بمتطلباتهم ومطامحهم، ويمكن أنْ نعدّه الوحيدَ من بين أساتذة ذلك الجيل من كان يسمح لطلبته أن يعترضوا عليه، ويشاغبوه، ويحتكموا لديه حين يختصمون معه، ويشير أحد زملائه إلى أنهم كانوا يشعرون بوجود غازي في هذه القاعة أو تلك بمجرّد أن يسمعوا تفاعلَ طلابه وضحكهم.

وحين تولى عمادة كلية التجارة لم ينعزل كما ينعزل أصحاب السعادة العمداء، وإنما ازدادَ خروجاً واقتراباً، وصارَ عميدُ الكلية يتناول وجبة الإفطار في البوفيه الخاص بالطلاب، ويلعب معهم ساعةَ الفراغ (تنس الطاولة)، وكثيراً ما يلقي محاضراته في حديقة الكلية، وحين قدّم الطلابُ على المسرح مسرحيةً تسخر من الكلية كان سعادةُ العميد غازي القصيبي المؤلِّفَ الحقيقيَّ لها...، كان يقف مع طلابه حتى في سخريتهم منه، ثم يضحك ملءَ فيه، ويصفِّق لهم، تشجيعاً لمواهبهم من جهةٍ، وعقاباً للبيروقراطية، وردعاً لمثيلاتها من جهةٍ أخرى!!

هل تصدقون لو قلت لكم: إنَّ غازياً كان يقيم لطلبته الخريجين حفلةً كبيرةً في منزله؟!

(رحمك الله يا غازي، فبعض أساتذتنا لم يحسن التعاملَ معنا حتى ونحن نصفُّ إلى جانبه في المصلى!!).

وحين تولى غازي العمادة كان يعهد إلى وكلائه بأن يرفعوا شعار السماحة في التعامل مع الطلاب والموظفين، وكانت وصيته إلى وكلائه آنذاك «إذا تمشي مشوها».

لم يكن غازي متساهلاً بالطبع، لكنه كان على وعي بأنّ هناك الكثير من الأشياء لا تستحقُّ التوقف ولا الانتباه، وأنّ الجداول مهما بلغت لنْ تكونَ أكثرَ قيمةً من النهر الذي تنبع منه، أو تجري على أطرافه، أو تصبُّ فيه.

وحين كبرت مسؤولياتُ غازي كبرت سماحته معها، فلم تفتك به الأضواءُ، ولم تعبث به رياحُ الطبقية، لذلك ظلّ كما كان، يأخذ مع مخالفيه ويعطي، يكتب ويقرأ، يسلم ويرد السلام، وفوق ذلك كله كان يشكر حتى الذين يسخرون منه ومن مطامحه.

(رحمك الله يا غازي لم تلقّب بصاحب السماحة رغم كونك صاحبَها!!).

الدرس الثالث: البساطة، فرغم الكمِّ المعرفيِّ الكبير الذي يختزنه عقلُ غازي، نجده يستند كثيراً إلى البساطة، فلا يحبُّ من المعارف إلا ما يمكن استهلاكه بسهولة، ولا من أساليب اللغة إلا ما يمكن زرعها في كلِّ أرض؛ لذلك أقبل الناس على قراءته إقبالهم على كوب باردٍ من التوت في ظهيرة قاسية...، وأنا متيقن من أنّ السبب الأكبر في تميز غازي رغم بساطته يعود إلى التجربة الواسعة التي كان يغرف منها.

لا يحبُّ غازي اللفَّ ولا الدوران ولا يجيد –في الأصل– الفذلكةَ ولا الاستعراض، ووضوحه دال على وضوح رؤيته، وعلى صدقه مع نفسه أبداً، وثقته المطلقة بها وبقدراتها.

كثيرون يقرؤون ويكتبون، لكنّ أصواتهم وكلماتهم لا تتجاوز الطاولة التي يكتبون عليها، وكثير منهم يخبط خبط عشواء، فيكفر به الناسُ وبأفكاره.

الدرس الرابع: المروءة، فرغم اختلاف غازي مع الكثيرين لم يتخذ وجاهته منطلقاً للوشاية بهم، أو التخلص منهم، ولم يلجأ إلى التخفي وراء الأسوار عند الحديث عن خصومه، وإنما كان يواجههم في الميدان، الكلمة بالكلمة، والدليل بالدليل، وحتى حين عمد بعضُ رموز الصحوة إلى وسيلة (الشريط) لمواجهته، واجههم بالوسيلة نفسها فأصدر شريطاً مماثلاً أحسبه يتيماً في هذا السياق. وحينَ أوقفتْ الدولةُ بعضَ رموز الصحوة أغمدَ غازي سيفه وأسكت الصليل، وعلق على دولابه درعه، والتزم الصمت الجميل، ولما أراد أحدُ (الإثاريين) إثارته، وسأله عن رأيه في رموز الصحوة، أجاب غازي بمروءة يندر أنْ تجدَ لها مثيلاً اليوم: «لا أستطيع أنْ أتحدّثَ عن أناسٍ لا يملكون الدفاعَ عن أنفسهم» !!

وتمرُّ الأيامُ ويخرج رجالاتُ الصحوة، وتبدو مواقفهم أكثرَ حنكةً وحكمةً، فما كان من غازي إلا أن تناسى كلَّ ما مضى، وكان يرفض أنْ يحييه أحدٌ في حضرته من جديد، بل زاد على ذلك أن تحرّف إلى الثناء عليهم، والتواصل معهم بالصوت وبخطِّ اليد وبالحبّ أيضاً، ولم يكن كأمة من الناس تؤلمهم توبة الخطّاء أكثر مما تؤلمهم خطاياهُ!!

هذه المروءة وهذه القيمة الأخلاقية تكاد تفقد في عصرنا هذا، ونحن نرى أناساً يضيقون ذرعاً بنقطة الالتقاء، وينتفضون كلما آنسوا نورَ إصلاح واجتماع، ويجدّون ما وسعهم الجدُّ في سبيل إسقاط الخصم حتى وإن كان شريفاً، متخذين في سبيل ذلك طرائقَ يعفُّ عنها الكريمُ من مثل الكذب والخديعة والوشاية والتعالي وما إلى ذلك.

الدرس الخامس: التغيير، وهذا الدرس ليس جديداً علينا، فنحن نسمعه ملايين المرات من ولادتنا حتى الممات، لكننا لا نراه واقعاً إلا حيث يكون أناس يقطرون نقاء وطهراً، وأحسب غازي أحدَ هؤلاء، بل هو إمامُ روّاد التغيير المحلي في هذا السياق، وما أظنُّ أحداً ينكر أنّ الزيارات المفاجئة للمسؤول كانت في الأصل سنةً حسنةً سنها غازي –رحمه الله-، وأنّ التواصلَ الإعلاميّ المباشرَ صورةٌ حضاريةٌ عليا وضعَ أساسها غازي –رحمه الله.

ولكي تعرفوا حجمَ التغيير الذي قام به غازي اسألوا عن حال كلية التجارة في الرياض بعد أنْ تولى شأنَ عمادتها (1971م)، وستجدون من أمر التغيير عجباً عجاباً.

دروس كثيرة تختزنها مسيرةُ غازي، تحتاج منا إلى تدبر وتأمل؛ لنأخذَ منها مقولاتٍ كبرى في صناعة القائد الناجح، وفي الانتقال بالوطنية من قصيدةٍ وأغنية إلى مشروع عمل، يأخذنا وبلادنا الغالية إلى صفّ متقدم.

لقد مر غازي بمعارك كثيرة، وكانت معركته في وزارة العمل مع البطالة وجشع الأثرياء وموت الضمير من أشدِّ المعارك التي خاضها، ولقد استعان بالله أولاً، ثم بدعم القيادة، ودخل ميدان العمل بقوة وحزم، وصارع حتى اللحظة الأخيرة الكثير من الأشباح، ثم حين اشتد عليه المرضُ طوى فراشَه ورحل، وهو يترنم بأبياته الحزينة:

يا عالم الغيب ذنبي أنت تعرفه

وأنت تعرف إعلاني وإسراري

وأنت أدرى بإيمان مننت به

عليّ ما خدشته كل أوزاري

أحببت لقياك حسن الظن يشفع لي

أيرتجى العفو إلا عند غفار؟

رحمك الله يا غازي رحمةً واسعةً، وأسكنك فسيحَ جناته، ورزقنا غزاةً مثلك، يقاتلون الكذبَ والزيفَ والظلام، ويفتحون لنا مكاتبَ الوزارات والإدارت، ويجعلون من ولائهم لوطنهم حدثاً متنامياً لا مشهداً حوارياً عقيماً...

رحمك الله يا غازي، ورحمنا من بعدك، وأحسنَ عزاءَك فينا، إنْ لم نتدبّر حياتك في الإرادة والإدارة !!

Alrafai16@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد