بعد أن قمتُ بقراءة مقالي المنشور في الأسبوع الماضي على صفحات هذه الصحيفة المتألقة لاحظتُ أني ألمحتُ إلى (الجانب المضيء) من (الثقافة الغربية) التي أبصرتُ بعضاً من ملامحها هناك خلال ذلك الشهر الذي قضيته مع الزملاء في الجامعة في (بريطانيا) لحضور دورة (اللغة الإنجليزية) التي عقدتها (جامعة الإمام) لأعضاء هيئة التدريس لمدة شهر كامل..
.. وطبيعي أن يفعل المرء ذلك، إذ يُفترض به أن يتنبه لهذا (الجانب الإيجابي) عند هذه الأمم، ويستفيد منه، ويحاول أن يتمثَّله ويعمل به؛ ليحصل التطور والتقدم الذي حصل من قبل لهذا الآخر.
ونحن إذ كنا نلحظ هذا (الجانب المضيء) في كثير من (المواقف اليومية) و(المشاهد الحياتية) هناك فإننا كنا حينها نحس بغربة (سلبية) إذا صح تسميتها بذلك، أي أننا كنا نتحسر على أمثال هذه (العادات) التي يعمل بها هؤلاء القوم، و(الثقافة) الإيجابية التي يتصرفون على أساسها، بينما نفتقد نحن إلى كثير منها، ولهذا أمثلة كثيرة لا يمكن أن يجهلها أحد تتهيأ له الفرصة لزيارة تلك الأماكن.
ويمكن أن أذكر هنا بإيجاز بعض (المجالات) التي لفتت انتباهي، وسجَّلت نقطة (إيجابية) في صالح أولئك القوم، وحُقَّ لهم أن يفتخروا بها، وحريٌّ بنا أن نقتدي بهم فيها:
أولاً- النهضة (العلمية) و(الثقافية) التي يلحظها الذاهب إلى هناك، ويكفي أن تقوم بزيارة عجلى إلى المؤسسات (العلمية) و(الثقافية) لتطلع على ضخامة ما يُنجز بهذا الخصوص، وحينها لن تستغرب المراتب المتقدمة التي تحتلها (جامعات) هذه المدن في (التصنيفات العالمية).
ثانياً- الوعي بقيمة (الوقت)، واستغلال الدقائق فيما ينفع ويفيد، وإذا أردت أن تتأكد من ذلك فاذهب إلى (المكتبات التجارية) ولاحظ عدد المرتادين، وتوجه إلى أماكن (الانتظار) أو اركب أحد (الباصات) وشاهد كيف يستثمر الشخص وقته في (قراءة كتاب) أو غيره، أضف إلى ذلك (احترام الوقت) و(تقديس المواعيد)، وقد درسنا هناك مدة شهر كامل لا أذكر أن أستاذاً تأخر أو أستاذة تأخرت على حصتها دقيقة واحدة!
ثالثاً- (البساطة) في كل شيء، وهذه من أبرز الأمور التي يلاحظها المرء، فهناك مثلاً البساطة في (الملبس) سواء عند الرجال أو النساء أو الأطفال، فلا أحد ملزمٌ بارتداء نوعية خاصة من الملابس أو لون معين أو موديل محدد، بل البس ما ترتاح له دون أن تتوقع أن الناس يمكن أن يتهامسوا حولك أو يتغامزوا بسبب ملابسك.
كما أن من مظاهر (البساطة) هناك ما تلاحظه من ناحية الأكل أو الشرب، وخصوصاً عند (استقبال الضيوف)، فحين تزور أحدهم فلا تتوقع أن تجده قد استعدَّ لك ب(المفطحات) أو أنواع الحلويات وصحون الفطائر، وغيرها من صور التكلف الممقوتة التي نعدها في ثقافتنا (كرماً) و(احتراماً) للضيف.
رابعاً- وهو الأمر الذي أشرتُ إليه بوضوح في ثنايا مقال الأسبوع الماضي، وهو (الالتزام) التام بالقوانين، و(التقيد) العجيب بالأنظمة والتعليمات التي يعيها الصغير ويعرفها الكبير، ويطبقها الأطفال قبل النساء والرجال، وهنا أمست غربتنا أشد وأكبر ونحن نرى ثقافة (احترام النظام) وقد تشبع منها أفراد المجتمع، فانعكس ذلك على تصرفاتهم وأفعالهم. ولكي لا أُتَّهم بالانبهار بالثقافة الغربية والإعجاب بها على المستوى الكلي، ولكي تكون النظرة إلى هذه الثقافة (عادلة) و(متزنة)، فإنني أشير هنا إلى كثير من الأمور التي تفتقدها هذه الثقافة الغربية، وأحسسنا خلالها بغربة (إيجابية)، ونحمد المولى عز وجل أن كانت ثقافتنا الإسلامية والعربية تؤكد على مثل هذه الأمور والتصرفات، ومن أبرزها ما يلي:
أولاً- غياب (الثقافة الدينية) وانعدام (الروحانية) في تلك البلاد، فلا يمكن أن تجد أي مظهر من مظاهر (الخشوع) بغض النظر عن نوع الديانة التي يدين بها أولئك القوم، ولا يمكن أن تسمع أي صوت من أصوات (الخضوع) التي تشعرك بالروحانية والسلام سوى تلك الأجراس التي لا تفعل شيئاً من ذلك؛ ولذلك كنا نشفق على الطلاب المبتعثين الذين يصادفهم شهر رمضان المبارك أو أيام الحج وهم في تلك الديار.
ثانياً- الافتقاد إلى (المعاملة الإنسانية)، وقلة (الرحمة) و(الشفقة) في قلوب أولئك القوم، وعدم مراعاة (الظروف الطارئة)، وهذا راجع إلى (الالتزام التام) و(الحذافيري) بالأنظمة والقوانين، فأضحى الواحد منهم وكأنه (روبوت) يقوم بفعاليات مبرمجة سابقا، ولا يمكن أن أنسى في هذا السياق ذلك الموقف الذي كنا راكبين فيه (الباص) استعدادا للانطلاق، وإذ بإحدى الفتيات تقتحم الباص وهي تلهث من التعب، وتقف أمام السائق مذعورة مرتبكة وهي تبحث في حقيبتها عن النقود ليُسمح لها بالركوب، لكن لسوء الحظ لم تجد محفظتها، فبدأت تتوسل للسائق لعله يتغاضى عن قيمة هذه التوصيلة، لكنه صرخ في وجهها مستنكراً هذا الطلب، ورفض رفضاً قاطعاً دون مناقشة، فالتفتت إلى إحدى الجالسات تطلب منها المساعدة في هذا الوقت العصيب وهي تبكي فلم تلق منها سوى الرفض والتجاهل، وألقت نظرة استرحام على الجالسين لعل أحداً منهم يفزع لتسليفها أو الدفع عنها، خصوصا وأنه مبلغ بسيط لا يتجاوز ما قيمته عشرة ريالات، ولكن كل من في (الباص) قد أشاح بوجهه أمام توسلات تلك الفتاة المسكينة، ولما يئست وهمت بالخروج ناداها أحد الزملاء وأعطاها المبلغ، فانفجرت باكية من الفرح، ولما تحرك الباص سألها عن ظروفها، ففوجئنا حين أخبرته أن هذا اليوم هو أول يوم لها في عملها الجديد، وأنها أخبرت السائق والمرأة الجالسة عن ذلك، فلم يُلقوا لذلك بالا!
ثالثاً- انعدام (التماسك الاجتماعي) وغياب (التلاحم العائلي) بين أفراد الأسرة الواحدة، ولذلك فنادراً ما ترى الأسرة بأبنائها وبناتها مع الوالدين يزورون سوقاً أو يتناولون وجبة في مطعم، وأكثر المشاهد التي يراها المرء هناك مشهد رجل طاعن في السن تسير بجانبه امرأة عجوز، أو شاب وبرفقته صديقته أو زوجته، وقد كان يقطن في الشقة التي فوقنا رجل عجوز مع زوجته، وكان يزوره بعض الزملاء للتحدث معه والاطلاع أكثر على ملامح الثقافة هناك والاستفادة من اللغة بشكل مباشر والاستماع إليها من متحدثيها الأصليين، وقد كان يذكر هذا العجوز أن له ابنة لا تزوره إلا مرة كل أسبوعين! فهناك كلٌّ لاهٍ بنفسه ومشغول بلذته ومهتمٌ بسعادته، وآخر همه التفكير بوالديه أو أبنائه أو إخوانه وأخواته.
إن العاقل المتبصر يجب أن يقف موقفاً (عادلاً) (وسطاً) (متزناً) من كل ثقافة يطلع عليها، أو مشاهد يعيش أحداثها ويعايشها، فلا ينبهر بكل جديد يراه ويعجب بكل حديث يطلع عليه، وفي المقابل ينبغي ألا يرفض كل ثقافة وعادات وتقاليد وتصرفات رفضاً كلياً لمجرد أن أصحابها لا يدينون بالديانة نفسها ولا يتفقون معه في العقيدة ذاتها، وهذا منهج قرآني قبل كل شيء، فقد قال المولى عز وجل في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (8) سورة المائدة.
Omar1401@gmail.com