Al Jazirah NewsPaper Friday  20/08/2010 G Issue 13840
الجمعة 10 رمضان 1431   العدد  13840
 
أكفانها أطراس
محمد البشير

 

لم تعدِ الأرضُ هي الأرضُ ولا السماء. أشعة الشمس الحمقاء تمارس عادتها اليومية ؛ لتوقظ أصوات الرصاص التي لا تغفو! يخرج الناس إلى المقاهي لسماع ضجيجُ التفجيراتِ بدلاً من أغاني حضيري بوعزيز وناظم الغزالي.. أبي -رحمه الله- يقول إن العراقَ أرضَ السواد ! للتو علمتُ بسرِ تلك التسمية.

دماءٌ تهرقُ.. تتجلطُ.. تسوَّدُ. تطلي الأرضَ وتصبغُ الأكفان. أعلامٌ سودٌ تعلو حداداً على الشهداء. أدمنتها الأعينُ، فارتشفتها القلوبُ حتى الثمالة.. أصبحت القلوب كأكوازٍ سودٍ مجخيةٍ لا تعرف غير الثأر.

أحملُ معولي الصغيرِ وإزميلا ومطرقةً في حقيبةٍ رثةٍ كان لونُها أسودٌ قبل أن يبدلَه الغبار. أسيرُ ويدي اليسرى تحمل الحقيبة واليمنى على ركبتي بعرجٍ مهما بالغتُ في آخراسِهِ تفضحُه طقطقةُ نعلي المتخمة بمطاط لعلها تعلو قليلاً. أخطو وجلاً في الزقاقِ المؤدي إلى المقبرةِ بين البيوت المتوارية. صوتٌ يندلقُ بخشيةٍ من نافذةِ دار مضاءةٍ بنورٍ أحمر. أشرعَ الكهلُ ستارته السوداء ليسمح بمزيد من الضوء للخروج، وأخذ يستمع إلى أسطونة أدارها (معود على الصدعات قلبي) يمد بها صوته.

كلما سرت في طريق أتنهد على حال هذا التراب الذي لم يعرف الدعة. كلما التأم جرح أتى خنجر ليزيد في حجمه وينكأه من جديد. شبحا أبي يعقوب الخريمي والرصافي يقفان في الطرقات يرثيان العراق ولكن بتتار جدد، وكل شعر في العراق جريح.

بوابة المقبرة مواربة لا تكاد تغلق. تسللت بين الأجداث. صوت صرار الليل يطن في أذني. أخذت أحفر بهدوء في القبر الرطب قبل أن تسبقني الدود إلى ما أريد.

هذه الجنازة سبقتها أصوات الرصاص.. حظيظة هي. قديماً لا تسبقُ تلك الجلبةُ إلا جنائزَ الزعماء ! أما هذه فأريد عرقلتها، ولا أعلم لماذا؟

وصلت في طَرقاتٍ قليلةٍ إلى جسدها المسجى. الرداء الأبيضُ ملطخٌ ببقعٍ حمراء. لا بأس فأكثر الأكفان التي آخذها لا تسلم من الدماء! سأغسلها لتعود وتكفن آخر.

أخذت أقلبها لأخلص لفافتها البيضاء، فبعد اليوم ليست بحاجتها. أما والدتي العجوز فهي بحاجةٍ إلى الدواءِ الذي يكفله ثمن ردائها مع أردية أخرى. لا وظائف يستطيعُ بها من يقطنُ بغدادَ من جني المالِ دون أن يتشجَ بالموت.

قبل أن أطمرَ القبرَ بالترابِ بقيت قطعةٌ من القماشِ ملقاةٌ على جانبِ القبرِ وغطاءٌ رقيقٌ تركته ليسترَ جسدَها.

لحظت قلادةً متشبثة برقبتها تحملُ خريطةَ العراق. قفزت يدي محاولة تخليصها دون جدوى!.

عدت بالكفن أردت غسله وتجفيفه، وقبل أن ينهال عليه تيار الماء، وجدت عليه خطوطاً دقيقة بحروف مكتوبة على الكفن.

تناولتها. أطفأت صوتَ صفيرِ (السماور) سكبتُ قليلاً من الشاي الأسودِ وأضعافَه ماءً يداعب ظلمتَه. صوتُ سعالِ أمي يملأُ المكانَ، جلستُ على الكرسي تحتَ الضوءِ المتخاذلِ من سراجِ الغاز، وسحبُ الغاز تزيد في ظلمةِ الزجاجة، أخذتُ جُزءاً من خرقتِها البيضاءِ لأُعيدَ للزجاجة قليلاً من صقيلها.

تبسمتُ. يبدو أن هناك من كتب على الكفن. أخذت أتهجى ما كُتب. رشفت قليلاً من الشاي بصوت عالٍ:

(لم يكن شيءٌ أقربَ إلى فؤادي من هذه القلادة في رقبتي. خريطةُ العراق جزءٌ من جسدي لا ينفك. ظننت أني باختلاطِ دمِ والدي ووالدتي أنني بمنءً من القتل.

لا أحبَ إلي من العودةِ إلى مسقطِ رأسي (سامراء) لعلي أرى ما يسُرُ ناظري. يا بؤسَ سامراء إن دبَتِ الفتنةُ بين أهلِها. أردتُ تتُبعَ خيوطَ الفتنةِ بتفجيرِ مرقدِ الإمامين العسكريين، فتلك الفاجعة تسوءُ من رأى.

أرسُف في أغلالٍ صماء بكماء. قطراتُ الدمِ ترسُمُ خريطةَ العراقِ وتجمعُه بلونٍ واحدٍ.

توسلتُ إليهم بنصف دمي. ابتهلتُ بصوتٍ خفيضٍ يسمعه الإمامُ بالقربِ مني. أيقنت أني مودعة لا محالة فأخذت أكتب هذه الحروف على كفني الذي سرت به.

كل ما أريده أن أسجى في ترابِ العراق. أن أنام قريرة العين. أن يصلي خلف جنازتي من يضمُ يديه ومن يسدلُها لعل دعوة صادقة يتقبلها ربي.

قبل أن تغفو عيناي رأيتُ ما بين النومِ والصحو جنازتي تحملُ على الأكتافِ. أضلُعي مكسرةٌ ورأسي خرقَهُ الثاقب، والناس تهتف بتوحيد الله.

ومن يقف ببنادقه يأبى إنفاذ وصيتي.. أقلُ حقوقي في تراب وطني.. دفني في قبرٍ يضمُ ما بقي من جسدي..

أصواتُ البنادقِ تُزعج رقدتي.. من يحملني هرولَ إلى لا جهة. لله أنا لم أهنأ حتى في سيري إلى القبر.

أخيراً ووريت الثرى..

وداعاً يا وطني.. أتمنى بعذريتي أني وفيتُ بعهدي، فلم يلأمس شغاف قلبي سوى علم العراق وخريطة العراق.

بقيت أسرار لم أبُحْ بها لأحد وآن تسطيرها.....)

قطعة ممزقة في الكفن. الحروف بُتر نصفها. أجهدت بصري. تناولت النظارة التي لا أرتديها حملقت في الحروف أظنها (ليقرأها الجميع وتبقى شاهداً على موتي حي نما لم يصل صوتي فوصلت حروفي)

صوت خرير الماء ملأ الوعاء لبدء غسل الكفن وبيعه. توجهت نحو الصنبور لأخرسه. أخذت حقيبتي وصوت حذائي يوقظ أمي لتسعل من جديد.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد