Al Jazirah NewsPaper Thursday  26/08/2010 G Issue 13846
الخميس 16 رمضان 1431   العدد  13846
 
خادم الحرمين على خطى الخلفاء وأئمة السلف والمصلحين عبر القرون
يوسف بن محمد العتيق

 

قد يتبادر إلى الذهن أن الأمر الملكي الكريم والذي وجهه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود حفظه لسماحة مفتى عام المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ بقصر الفتوى على هيئة كبار العلماء أو من يأخذون تصريحاً مسبقاً بالفتوى أمر حديث وكأنه من موضوعات الساعة أو أنه حكر على زماننا أو بلادنا وهذا الأمر المتبادر إلى الذهن عند البعض غير صحيح إذ إن المتأمل في تاريخنا العريق وكتب الفقه وكتب أدب الفتوى يجد أنها قضية مبحوثة في التراث الفقهي ومنصوص عليها صراحة في الكثير من الكتب وكان بمثابة المقترح الذي يقدمه العلماء الكبار للولاة لحفظ ساحة الفتوى وحماية لسمعة الدين من عبث العابثين والمتعالمين ممن يدعي العلم وليس من أهله، وهذا الأمر في الوقت نفسه كان محل تطبيق ولاة الأمر في فترات سابقة لما اقتحم هذه الساحة من ليس من أهلها مستغلاً عاطفة الناس الدينية الكبيرة وثقتهم في كل من ظهر بهيئة العلماء والمشايخ واحتياج الناس من يفتيهم في أمور حياتهم فهذا المنع محل ممارسة الحكام والخلفاء قديماً ومن قرون طويلة، وهو في الوقت نفسه رأي الكثير من كبار العلماء في تاريخنا.

من أجمل النصوص في هذا المجال ما وثقه العالم الشهير ابن القيم الحنبلي المتوفى سنة (751 هـ) عن شيخه الأشهر في ثقافتنا وهو ابن تيمية المتوفى سنة (728 هـ) فابن القيم ألف كتاباً ضخماً بمئات الصفحات وبعدة أجزاء أسماه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) وهو يقصد بالموقعين عن رب العالمين الذين يفتون، فهم بمثابة من يوقع عن الخالق جل جلاله.

وعنوان الكتاب بحد ذاته يكفي في بيان أهمية الفتوى وخطورتها، وهو مطبوع متداول بعدة طبعات وعدة تحقيقات وكله يناقش موضوع الفتوى وأشهر المفتين في الحضارة الإسلامية.

نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية وغيره من العلماء ما خلاصته أن ولي الأمر آثم إذا لم يمنع مقتحمي الفتاوى من غير أهل الاختصاص!

وقد جاء هذا الحديث واضحاً لا لبس فيه حيث أنه خلاصة آراء ثلاثة علماء من كبار علماء المذهب الحنبلي، وهو المذهب السائد في هذه البلاد والمعمول به.

وعوداً على نص حديث ابن القيم في الكتاب المذكور حيث قال: مَنْ أَفْتَى النَّاسَ وَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْفَتْوَى فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ، وَمَنْ أَقَرَّهُ مَنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ أَيْضًا».

قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: «وَيَلْزَمُ وَلِيَّ الْأَمْرِ مَنْعُهُمْ كَمَا فَعَلَ بَنُو أُمَيَّةَ، وَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدُلُّ الرَّكْبَ وَلَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالطَّرِيقِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى الَّذِي يُرْشِدُ النَّاسَ إلَى الْقِبْلَةِ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالطِّبِّ وَهُوَ يَطِبُّ النَّاسَ، بَلْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، وَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعَ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ التَّطَبُّبَ مِنْ مُدَاوَاةِ الْمَرْضَى، فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَلَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ؟.

وَكَانَ شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَدِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ لِي بَعْضُ هَؤُلَاءِ: أَجَعَلْتَ مُحْتَسِبًا عَلَى الْفَتْوَى؟ فَقُلْتُ لَهُ: يَكُونُ عَلَى الْخَبَّازِينَ وَالطَّبَّاخِينَ مُحْتَسِبٌ وَلَا يَكُونُ عَلَى الْفَتْوَى مُحْتَسِبٌ؟»

وانظر آخر الحديث من الشيخ ابن تيمية الذي يستنكر وجود رقابة على المواد الغذائية ولا يكون هناك رقابة على الفتوى؟!

وقبل هؤلاء جميعاً تحدث الخطيب البغدادي من علماء القرن الخامس (توفي سنة 463 هـ) حيث قال: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقره ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود وتواعده بالعقوبة إن عاد وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح الفتيا أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم.

هذه بعض النقول والتي حرصت على أن لا أستشهد إلا بنصوص من قبل سنة الألف للهجرة لأبيّن أنها مسألة قديمة وهي محل عناية واهتمام كل ولي أمر يراقب الله في رعيته ومن ولاه الله أمرهم.

وهنا يطيب لي أن أنقل أكثر من نص آخر لأبين أن السلف الصالح كانوا لا يفتون إلا بعد توافر صفات كثيرة ومهمة وعلى رأسها شهادة أهل الخبرة والاختصاص له:

فالإمام مالك صاحب المذهب الفقهي الشهير والمعمول به في دول شمال إفريقا كاملة يقول: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك!!

لم يبدأ في الفتوى إلا بعد شهادة سبعين بأنه أهل للفتوى، وكثير من المفتين الآن من الممكن أن يشهد له سبعون بأنه ليس أهلاً للفتوى!!

ويقول أبو الحسين الأزدي متهكماً ببعض المفتين الذي يفتون في القضايا الكبرى ويتحدثون مع أن هذه القضايا لو عرضت على الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لجمع الصحابة وناقشهم فيها فيقول الأزدي: إن أحدهم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر!

وأخيراً هذه طرفة نقلت عن أحد المفتين الفضلاء حيث كان مشفقاً على السائل، حيث تقول الرواية: وسئل القاسم بن محمد عن شيء، فقال: إني لا أحسنه، فقال له السائل: إني جئتك لا أعرف غيرك، فقال له القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه

فهذا الجواب الظريف من الشيخ اللطيف حذره من الانخداع بالهيئة أو كثرة الجمهور فإذا كان الشيخ لا يحسن شيئاً، فليقل لا أحسنه.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد