Al Jazirah NewsPaper Thursday  26/08/2010 G Issue 13846
الخميس 16 رمضان 1431   العدد  13846
 
(شقة الحرية) تبكي غازي القصيبي

 

كأن باريس أيضاً تبكيه

المطر ينتحب منذ الصباح في باريس وبومات بيتي الـ563 بومة تنتحب حزناً على غياب الأخ المبدع غازي القصيبي، المحب مثلي لطائر البوم.. همت على وجهي في شوارع باريس تحت المطر، فنحن لما نصحُ بعد من ضربة خسارتنا للنقيب ملحم كرم وتكاثرت علينا الأحزان.

مشيت طويلاً وكان بوسعي أن أدمع دون أن يلحظ أحد ذلك تحت المطر يوم الأحد في منتصف شهر آب، كأن المطر ينتحب لرحيله.. يغسل قباب (الساكريه كور) وأزقة المونمارتر وأشجار الشانزيليزيه ومقاهي الحي اللاتيني، ولعلها تمطر من عيني أيضاً بين وقت وآخر وأنا أمشي وأمشي..

مضى غازي الإنسان وبقي القصيبي الفنان

رحل غازي الوزير السفير الصديق الإنسان وبقي القصيبي الفنان في إبداعاته الشعرية (صوت من الخليج - الأشج - اللون عن الاوراد - سحيم وسواها). وفي عطائه الروائي (شقة الحرية - العصفورية - دنسكو - الجنية وغيرها) وفي كتبه الفكرية (التنمية - الأسئلة الكبرى - الغزو الثقافي - أمريكا والسعودية - حياة في الإدارة وسواها) ناهيك عن خفة ظله في أدب الرحلات و(العودة إلى كاليفورنيا سائحاً).

إنه مبدع ستبكيه الأبجدية العربية طويلاً.. وسيفتقده رعايا سحر الكلمة فهو رجل (كثير وغزير)، وكما يقول عنه د. محمد بنعيسى: ليس بمقدور أي دارس أن يدعي الإحاطة بأديب وشاعر وباحث أكاديمي بحجم غازي القصيبي، إنه بحر من العلم والمعرفة والموهبة الخلاقة والمواقف الشجاعة والطيبة الإنسانية، لا يمكن بل لا يجوز اختزاله في خانة أدبية أو فكرية أو مذهبية، إنه ببساطة واختصار ذلك المثقف الشامل والمبدع.

غازي الوفي لأساتذته

كنت طالبة في الجامعة الأمريكية حين سمعت للمرة الأولى باسم التلميذ غازي القصيبي من رسائل والدي من الرياض، حيث كان يعمل أستاذاً في جامعة (الملك سعود) في أواسط الستينيات بعدما تقاعد من مهامه كوزير للتربية ورئيس لجامعة دمشق، وأبدى والدي ارتياحه البالغ لعمله في السعودية ولم يشعر بالغربة بفضل محبة تلامذته وعلى رأسهم شاب صغير توقع له مستقبلاً رائعاً يدعى غازي القصيبي.. والتقيت بغازي للمرة الأولى في فندق في بحمدون حين عرفني الوالد عليه وكان يصطاف وأسرته في الفندق الذي حل فيه أبي ورحل أبي ولم أنس يوماً غازي ورفاقه الذين حموا والدي من الشعور بالغربة حتى رحيله.. ودامت صداقتي الأدبية الأخوية والقصيبي عمراً.. ولن أنسى أيضاً ضحكة زوجي وهو يقرأ كتاب غازي القصيبي عن عودته كسائح إلى كاليفورنيا، ونحن نتنازع الكتاب ونتضاحك حتى صار القصيبي - بعدما كتبت له عن ذلك - يهديني نسختين من كتبه، واحدة لي والأخرى لزوجي الحبيب بإهداء منه له لكي لا نتشاجر حول من سيقرأ كتابه أولاً.

(الجزيرة) كرّمته حياً في (كتاب الوفاء)

من أجمل الكتب (شكلاً ومضموناً) التي طالعتها في الشهور الماضية كتاب من إصدارات مؤسسة الجزيرة السعودية بعنوان (الاستثناء) غازي القصيبي، ويضم كما عرّف به رئيس التحرير خالد بن حمد المالك، يضم قراءات لأكثر من سبعين أكاديمياً وباحثاً وكاتباً وصحفياً رجالاً ونساء من السعوديين والعرب والأجانب يمثلون أكثر من أربعة وعشرين بلداً تابعوا مسيرة د. غازي القصيبي الشعرية والروائية والإبداعية والمقالية على مدى عطائه الممتد على نصف قرن، واتفقوا على محبة إبداعه وشخصه في عالم عربي قلما يجمع المثقفون فيه على شيء كما أجمعوا على محبة (الغازي) لقلوب الجميع ولإعجابهم الأدبي وقد شاركتُ في مهرجان المحبة الأبجدي حين طلب مني الأستاذ عبدالكريم العفنان ذلك، وكان هو أول من نقل لي نبأ رحيل القصيبي لأنه يعرف محبتي له ولأدبه (وشراكتنا) في حب طائر البوم.

وجهنا الثقافي الحضاري كعرب

منذ أسابيع، من العمل والزحام والسفر وأنا أقول لنفسي: أريد أن أكتب للقصيبي وأكتب عنه وعن (الجزيرة) التي احتضنت المحبة له وكرّمته حياً في كتابه، فيا له من إصدار رائع بتوقيت استثنائي لأن الراحل الغالي طالعه وفرح به، وأنا ببساطة لا أحب وضع النياشين على توابيت الراحلين وصدورهم بعد أن يكف القلب عن الخفقان. مؤسسة (الجزيرة) للصحافة والنشر تبنت جميع المقالات لهذا الكتاب الجميل بطباعة أنيقة وغلاف رائع للقصيبي وأفرحته قبل رحيله في 632 صفحة وأبرزت الوجه الحضاري لنا كعرب يقدرون سحر الكلمة، ونطالع نزف المحبة في تقديم د. إبراهيم عبدالرحمن التركي للكتاب بعنوان جذاب هو (أما قبل)، بدلاً من (أما بعد) المألوفة وبتقديم آخر من عبدالكريم العفنان مدير المكتب في دمشق ومن عبدالعزيز بن عبدالله السالم وبكلمة لرئيس التحرير خالد المالك ولمدير التحرير إبراهيم عبدالرحمن التركي. هذا ناهيك عن الشهادات في إبداع القصيبي، ذلك النادر الذي تبكيه أمطار باريس و(بومات) بيتي، و(بوم) العالم كلهن وستفتقده أولاً أسرته الكريمة والأبجدية العربية والقراء، وما من عزاء إلا في الوفاء.. وشكراً لخالد المالك الذي كتب للمشاركين في الكتاب التكريمي وأهداهم (كتاب الوفاء) هذا.. ولم أر من قبل كتاباً عربياً نقدياً بهذه الفخامة الطباعية وهذا الثراء الإبداعي من الأدباء - الشعراء- النقاد، إنه بحق أجمل تكريم للراحل حياً وغائباً.

نقلاً عن مجلة الحوادث
غادة السمان


 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد