إن الموت حق، ورحيل الإنسان حق إلا أن رحيل (الاستثناء) فاجعة، إن رحيل معالي الدكتور غازي القصيبي ذُهول وارتباك، وكم كُنا متفائلين بشفائه، إلا أن القدر كان من نصيبه. لقد تذكرني بعض المواقف النبيلة التي تربطني بها مع معالي الدكتور غازي حينما هاتفتهُ في لندن أيام كان سفيرًا للمملكة آنذاك، وطلبتُ منه أن أكرمّه وأعمل له حفلًا تكريميًا يليق بمقام معاليه، كونه ليس وزيراً فقط وإنما مهندس إدارة وأديب وثقافي، وكنتُ صاحب ثلاثئية المغلوث الأدبية التي تعتني بتكريم الأدباء والمثقفين ورموز العلْم، حيث كرّمنا عددا من الشخصيات في المملكة، واللجنة في هذه الثلاثئية قررت أن يكون في هذه السنة التي هاتفته فيها من نصيبه، فذكر لي أنه لا مانع لديه، وشرفه هذا التكريم، وأن نرسل له خطاب حتى يرد عليه، ففعلاً أرسلتُ له خطابا في يوم الأحد من تلك السنة عبر شركة فيديكس لنقل الرسائل السريعة، صدقوني أنه جاء الرد بالفاكس لي يوم الاثنين الساعة الثانية ظُهرًا بالموافقة على حضوره للتكريم، وهذا يعني لنا الشيء الكثير أنه في خلال 24 ساعة يكتب إلينا من مكتب السفير وبتوقيعه، أي عندما دخل المكتب وجد بريده أمامه فرد علينا في الحال.
من المستحيل أن نجد هذا الأسلوب في الإدارة في وزارتنا وجهاتنا الرسمية ودوائرنا التي تستغرق أياما وأسابيع وشهورا، وتدخل في البيروقراطية والصادر والوارد والتفكير في كيفية الرد، أو يحوله إلى اللجنة أو مستشاره أو سكرتيره، بل كان غازي خلاف ذلك، حيث إنه مهندس الإدارة، المستشار والسكريتر واللجنة وصاحب القرار.
مع الأسف أن برحيله فقدنا عالما مبدعا وباحثا متعمّقا وموسوعة يُحيط بها كل عوامل النجاح. إننا أمام شخصية إنسانية فريدة متميزة أهم ملامحها التواضع والأسلوب الحسن والبشاشة المتألقة بل ابتسامة ذكية مُشرقة.
ما أعني بكلامي به هنا بأنه مهندس الإدارة أنه اهتمّ بإدارة الوقت وخاصة فيما يتعلق بالمواعيد الدقيقة وبذلك استطاع وبنجاح أن ينفذ برنامجه العملي اليومي بين الجانبين الرسمي والخاص، والغريب أنه يُقدر من يتصل به، وحتى لو لم يجده يرد عليه لاحقًا بخلاف ماهو حاصل الآن. حيث إنك تتصل بمسؤول وإذا لم تجده تترك له خبرا، ولا يرد عليك حينما يأتي، هذا لا يعطي اهتماما للآخرين، بل غازي كان يحترم من يتصلون به، ويرد عليهم لاحقًا حتى لو لم يجدونه، حيث حصل لي موقف آخر أني اتصلت بمعاليه ذلك المساء في لندن، حيثُ كنتُ هناك ولم أجده، فأبلغت إحدى العاملات اللاتي يعملن في سكنه وتفاجأت بمدير مكتبه يتصل بي ويعتذر أن معاليه لم يكن في المنزل وأنه سوف يرسل سيارة تنقلني إلى السفارة للحضور في المجلس الأسبوعي الذي يُقيمه السفير للقاء رجال الأعمال والمثقفين، وعلى فكرة هو من سنّ هذا الصالون وأنشأه في ديوان السفارة، وصار مُرتادوه من رجال الأعمال والمثقفين والمقيمين هناك. أفكاره -رحمه الله- جميلة ومفيدة وتصب إلى الخير.
أذكر كذلك أنه لما كان وزيرًا للصحة أصدر قرارًا إلى كافة الأطبّاء أن يضعوا لافته على عياداتهم تحمل أسماءهم وتخصصهم كطبيب وليس دكتور إلا من حصل على شهادة الدكتوراه، حيثُ لا يمكن أن يُنسب الطبيب وهو أخصائي ويحمل شهادة البكالوريوس أن يُطلق عليه دكتور بل طبيب! وهذا يدل على احترامه لأصحاب المهن وللدارسين وأصحاب الأستاذية الذين مكثوا سنواتهم في العلم أن يأتي أحد ويشاركهم لقبهم بسهولة، بل لها مدلول أوضح بأن يطمئن المراجع والمريض أن الذي أمامه طبيب وليس دكتور.. احترم الثقافة وأعطى كل اهتمامه لها.
رحمكَ الله يا أبا سُهيل وسيبقى ذكراك خالدًا وفكرك يُلهم الآخرين أن يصبوا إليه، وما عملته في حياتك أن يكون في ميزان حسناتك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
د. عبدالله بن أحمد المغلوث
صاحب ثلاثائية المغلوث الأدبية بالأحساء