مصطلح (التواجد عن بعد) حديث التشكل لدينا كممارسات حياتية هو مع غازي القصيبي بدأ مبكراً جداً من خلال رحلة التأثير فينا عن بعد. تأثيره عن بعد (لم يكتف بشريحة من قرأوه وتابعوه ونهلوا من معين فكر غازي القصيبي)..
بل امتد ليشمل كل طبقات المجتمع الأمي والمتعلم بمختلف مستوياتهم المعرفية والثقافية، لم يكتف بالتأثير في الإنسان... بل تجاوز تأثيره ليشمل كل ماحولنا... موجودات، طرائق تفكير، وخلجات وجدان، ومناهج عمل، وبنى تحتية، وأساليب حياة، تشهد بذلك (سابك والجبيل وينبع والزيارات المفاجئة ونتاجه الغزير وطريقة إدراته وتعامله مع الناس).
إدارته لم تكتف بمرؤسية بل استطاع أن يوظف كل ماحوله لمصلحة عمله.. فقد وظف قلمه والإعلام والصورة المعبرة والحديث الصحفي لإيصال مفاهيمه ولخدمة مايؤمن به من قضايا (وكلنا يتذكر الوزير طباخا ونادلاً ومرتديا بزة العمل المهني بل هو الوزير الوحيد الذي شاهدناه يستبدل المشلح بقبعة النادل).
على المستوى الشخصي لم يكن لمثلي أن يلتقي وزيراً بحجم القصيبي بل إني لم أره على أرض الواقع ولم أشاهده سوى من خلف شاشة يفتتح مشروعاً أو يفند واقعاً أو يتحدث عن تجربة.. لكن القصيبي هذا كائن غريب استطاع أن يخلق له علائق ومواقف وذكريات حتى معنا نحن أولئك الذين لم نلتقه يوما ما.
وهذه حالة عجيبة وغريبة ومتجاوزة فكيف لشخص لم تلتقه في حياتك أن يصنع معك ذكريات مشتركة ؟! فقط من هم مثل هذا المختلف المتعدد لديهم القدرة على ذلك. في قريتي الصغيرة القابعة في أحضان تهامة الباحة بدأت ذكرياتنا مع القصيبي عندما كانت القرية وأهلها يجترون الحديث عن (القصيبي) قبل مايزيد عن ثلاثين عاما لأن أهلها سمعوا أن وزير الكهرباء مشغول بأن تصل خدمة الكهرباء لكل جزء في هذا الوطن (كان حلماً) تلوكه الألسن... ولأن الشيخ (أحمد بن حمدان) مهموم بوضع الوادي في ذلك الزمن فقد قرر أن يذهب لمقابلة الوزير (والتقديم عليه لطلب كهرباء لوادينا وقراه)... لا أعلم ماذا صار حيال فكرة (أحمد بن حمدان يرحمه الله) ولقاء الوزير لكن الذي أعلمه أننا صنعنا من (القصيبي) يرحمه الله بطلاً أسطورياً...كنا نتساءل... هل سيستطيع هذا الوزير أن يبدد ظلام قرانا بنور الكهرباء التي تقع في أقاصي الجنوب؟!)... ولم أكن أعلم أنه سيبدد بنور بصيرته وفكره الناضح وقلمه وأدبه ظلامنا وأميتنا ونحن نقرأ ونتابع بنهم ما أنتجه فكره...
وبعد حين من الدهر وفي عهد الملك فهد يرحمه الله... عاد الحديث عن القصيبي مجدداً وأنه يزور المستشفيات متخفياً وينضم لقوائم المراجعين والمرضى ليلمس حجم الإنجاز ومدى الانضباط ومقدار جودة الخدمة... وحينها كثر الحديث عن زيارته لمستشفيات ومراكز صحية حتى قالوا إنه زار مراكز صحية في قرى مجاورة... وأصبح اسم القصيبي يتردد في كل مكان.. واختلطت حقيقة زياراته بالأسطورة...
مرت الأيام والسنين فإذا بـ(حياة في الإدارة) يستأثر بي فقد وجدته يدلف بي إلى ميادين لم يكن من السهل لي الاطلاع على طرف منها، فهو ينقل لنا مشاهد ومواقف وحكايات من البلاط الملكي ومجالس الوزراء التي كان الحديث عنها يبدو محرما أو هو تجاوز وإفشاء لأسرار الدولة لكنه فاجأنا بأنها تحدث عن تلك العوالم بمنتهى الشفافية ونقل الأحداث كما حدثت في سياقاتها، فكان أول من رفع سقف حرية الحديث عن كل الفضاءات وفي كل الأحوال دون وجل وليكشف لنا أن الحديث الشفاف ليس جرما يعاقب عليه ولاة الأمر وأن من صنع السياج هو الخوف الذي يسكن المتحدثين أنفسهم هذا الكشف والإفصاح يأتي بين دفتي كتاب يتحدث عن مصطلحات وممارسات إدارية جافة جعل منه الماهر غازي القصيبي (كبسولة إدارية) تستطيع التهامها في أي وقت، دهشني أن القصيبي كان أول من أقرأ له في مجال الإدارة لأجد مفاهيم موغلة في أكاديميتها تأتي في ثوب (لغة سهلة ورؤية عميقة وفلسفة إدارية متقدمة ومنهج عمل إداري) اقتنيت نسخة أخرى من الكتاب وأهديته للأستاذ (مطر بن أحمد رزق الله) مدير عام التربية والتعليم بالجوف حالياً فوجدته يفتح درج مكتبه وهو مديرا لتعليم محافظة المخواة -حينها- وأخرج لي نسخة من الكتاب قائلا إنه يعكف على قراءته بين حين وآخر، أيقنت حينها أن الوزير القصيبي لم يكتف بوصوله وشيوع أثره في القرى والمناطق الريفية بل دخل معظم المكاتب وعقول أكثر المديرين ووجدان كثير من الناس...
وجاء الشريط الإسلامي ليدخل على الخط في علاقتي الشخصية مع (الوزير الذي لم أقابله قط).. فكانت هناك مواقف صدامية بين شيوخ أجلاء هم أعلام في مجالاتهم أحترم عقلياتهم وأقبل عليهم بنهم كبير أستشرف المستقبل في حديثهم وأنهل من معين فكرهم الكثير متابعة وقراءة منهم (عائض القرني وسلمان العودة وناصر العمر) ومع هذه المكانة الكبيرة لهم سابقا ولاحقا لم يستطيعوا أن (ينتزعوا فتيل الإعجاب ولا ردم مساحات المحبة ونظرة الإكبار التي تملأني لغازي القصيبي)...
وكنت أرى في ذلك السجال صراع الكبار فكراً ومخاضه سينتج واقعاً جديداً واحتفظ كل فريق منهم بمكانته الكبيرة في نفسي وهاهم اليوم بعد أن خبأ وخفت الصراع ينتجون لنا (مناهج حياة وطرائق تفكير وأساليب ناجحة في كيفية تجاوز المشكل وإدارة الخلاف والصراع الفكري الناضج الذي يتمخض عن وعي وإدراك وإحساس بالمسؤولية) فالشيخ سلمان العودة رثاه على الهواء في برنامج (حجر الزاوية الرمضاني) وتبادل معه.. جميل القول شعراً وأثريا ساحاتنا بعمل دؤوب وعطاء منهمر تجني الأجيال ثمرته.
من خلال قراءتي لمحطات الخميس والأسطورة وعين العاصفة ومشاهدتي لأبو شلاخ...وشقة الحرية..تعاظمت علاقة من طرف واحد للقصيبي أعلمها ويجهلها هو (وأزعم أن كثيراً من أبناء جيلي مر بتجربة القصيبي عن بعد..شكلت وعيه.. وأثرت فيه.. وأثرت حياته بالمفيد والممتع والنافع) رحم الله غازي القصيبي.... الذي رحل تاركا دويا يتردد صداه.
المخواة