Al Jazirah NewsPaper Thursday  26/08/2010 G Issue 13846
الخميس 16 رمضان 1431   العدد  13846
 
قصيبيات
نورا العلي

 

سيبقى غازي القصيبي ما بقي الوجود، سيبقى الإنسان والشاعر، الأديب والوزير والسفير، سيبقى حاضرًا، وإن غاب جسدًا، حضورًا لا يتوارى عن أي محفل، فإن غاب جسده، سيبقى قلمه وإنتاجه، وستبقى مؤلفاته التي تُشيع الأنس..

- ستبقى ذات طلع نضيد، وكلما ظمأنا، نهز كتبه, فتنسكب خلاصة تجاربه, وجميل شعره ونثره، ينسكب، فيروينا سلسبيلاً عذبًا جاريًا، غير آسن.

أليس هو القائل؟:

رأيت أني نخلةٌ

تنبت من أكتافها التّمور

تأكل من تمورها الطيور

فانتابني حبور.

من ديوان «ورود على ضفائر سناء»

في هذا الكتاب الذي لا يتجاوز السبع والثمانين صفحة استوقفتني مقاطع ثرية بالجمال، مبطنة بالألم والحكمة.

في ص17 يكتب القصيبي عن الصديق، الصاحب المطّلع على خفايا النفس، ورهافة الحس، ومن ثم الفجيعة به.

ليس الوحيد الذي كتب عن خيبة الأمل في الأصدقاء الصديق، ذاك الذي نبثه همومنا، أوجاعنا، إذ (شر البلاد مكان لا صديق به) ولكن، ما نقرؤه ونسمعه من تجارب الآخرين يبعث الخوف فينا، يجعلنا نزدري علاقات نحسبها صادقة أبدية، وينفث في روعنا، أن نبقى في ريب وحذر، ومن الأقوال الشائعة في ذلك (احذر عدوك مرة، واحذر صديقك ألف مرة) يا إلهي... ما أقسى الحقيقة التي يؤكدها هذا القول، وعبارة (من مأمنه يؤتى الخطر) صعب أن نبقى حذرين طوال الوقت، وأصعب أن نتوقع الخيانة من كل صديق، ونبقى دائمًا على حافة وجع.

يقول القصيبي في الصاحب، في نهاية قصيدة طويلة:

يا صاحبي!

لكنني طُعِنت

من جانبي طُعِنت

من مأمني طُعِنت

أواه !... حتى أنت ؟!

أواه !... حتى أنت ؟! (ص17)

- ومن جميل ما كتبه المتنبي في هذا الموضوع، الانسحاب، والبعد بهدوء، عند الشعور بخسارة صديق، إذ يقول:

إذا صديق نكرت جانبه

لم تعيّني في فراقه الحيل

في سعة الخافقين مضطرب

وفي بلاد من أختها بدل

- وتقول أحلام مستغانمي عن أحد أبطال رواياتها: (عندما يشعر بأنه أصبح بشعًا في علاقة ما, ينهيها ويهرب حتى عندما يكون الطرف الآخر وطنًا).

* أيضًا في ديوان ضفائر سناء، يتحدث القصيبي عن الموت... تلك الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فكيف يحتاج النهار إلى دليل؟, ومع ذلك نفزع إذا سمعنا بالموت وكأننا لا نتوقعه، ولا خطر لنا ببال... أم أنه وجع الفراق، وعذاب الوداع، ودمعه الرقراق.

ولفرط ألم الرحيل، إذا نشب... نفزع ونهرع بآمالنا إلى الكذب، ولترفعنا عن الدموع والندب... نلوذ للإنكار من هذا الكرب.

يقول القصيبي:

وها هي ذي ساعة الموت شعرًا

وغيثًا حزينًا...

يحاول أن يتجلد..

يرفض أن يتقمص شكل الدموع) (ص 19)

أم تراه كما يقول:

«وأدت العشق في موت مريح»

* القصيبي الذي رثا نفسه قبل أن نرثيه ليتنا لم نرثه، ليت المنية عنه تأخرت... ليتها تبخرت، ولم تطال العظماء، الذين بفقدهم، نصبح نحن الأحياء البسطاء، أحق منهم بالرثاء, لكن أيامهم ذبلت وذوت، والمنية أورقت وأينعت، ثم قطفت.

توجعني قصيدته التي يستجدي بها الأيام أن تتمهل، فلا زال العطاء وافرًا، ولا زال ثمة مشاريع وقصائد وقصص ومواعيد... يقول:

قولي لها: «تمهلي! ببابه.. وانتظري!»

قولي لها: «لديه - بعد - كتب لم تنشر

قصائد ما نظمت

عن جزر لم تعبر

وقصص ما كتبت

عن الحيارى البشر

وموعد لمّا يحن

مع الرياح الأُخر « (ص31)

ثم يقول:

« آهِ لو كنت قصيدة «

ويقول في (ص 58)

«إذا مت...

هل تكتبين على الماء:

«أرهقه السيرُ في المستحيل

فأغفى!»

سنكتب حينما تتهامى الدموع، وتبكيك عيون هدها الفقد والغياب، سنكتب، منذ غادرتنا ضمن مواكب الغادين، بأقلام تلهبها العبرات، فتسكبك قصيدة تتبتل على شفاهنا.

رحمك الله.. أيها المبدع.. منذ رحيلك و»كل جرح فيه جرح» كنت ولا زلت وستزال شامخًا.. حتى في الموت شامخًا

(أنا إن مت يوم موتي جبانًا

كيف يشدو بذكريّ الشعراء؟

إن للموت موعدًا... يتلاقى

في ذراعيه.. صحبه الأوفياء

كفنيني... قبليني... وهذا

قسمي: « لن يمسّك الجبناء) (ص 47)

رحمه الله... كفّنوه.. قبّلوه.. وفي الثرى أودعوه... ولرحمة الله تركوه.

أيها الساكن ملء أهداب الوطن، حتى وأن أغمضت أجفانك ستبقى بين الهدب والهدب.

رحمك الله، فبعدك...

(تمشي اللحظات معذبة

تشكو الإعياء

تخطو الساعات.. ولا تخطو

وأنا مثلك.. بين الموت...

وبين الإغماء) (ص 54)

آخر الكلام

يا سيدي التاريخ!

أرهقنا التأمل في بطولات الرجال

وفي نهايات الرجال

ما لا يقال... وما يقال (ص 85)

القريات


 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد