«بلقيس يقتَتلُ الأقْيَالُ فانتَدِبي |
إليهُمْ الهُدهُدَ الوَفّى بِما اؤتِمِنا.. |
قُولِي لَهُم أنتُمُ في ناظِرِي قَذَى |
وَأنتُمُ مَرََضٌ في أضلُعي وَضَنَى.. |
قُولي لَهُم يَا رِجَالاً ضَيّعوا وطناً |
أمَا مِنِ امرأةٍ تَستَنقِذُ الوَطَنَا.. |
من قصيدة للدكتور غازي عبدالرحمن القُصيبي بعنوان: (برقية عاجلة إلى بلقيس) قالها أثناء حرب اليمن عام 1994م، منشورة بديوانه: «قراءة في وجه لندن»..
|
- مَثَّلَ الأستاذ الدكتور غازي عبدالرحمن القُصيبي.. ظاهرة استثنائية في مجمل حياته الوظيفية والثقافية والفكرية.. ليس فقط في وطنه «المملكة العربية السعودية» وإنما في وطنه العربي الإسلامي الكبير..
|
- لقد تولى وزارة الصناعة والكهرباء.. عام 1976م مع بداية الطفرة التنموية التي شهدتها المملكة العربية السعودية ليبني بُنية أساسية في إطار عمله لا تزال شاهدة على تفانيه وإخلاصه وبُعد نظره!.. وتولّى وزارة الصحة.. ليُحدث فيها ثورة إدارية وإصلاحات مالية.. وبشرية.. ظلت حديث المجالس الخاصة والعامة.. وتقلد العمل الدبلوماسي ليُصبح تباعاً لذلك.. هو نجم الدبلوماسية والعنوان الجلي لها..
|
- وقبل ذلك وبعده.. كان القُصيبي..هو ذلك الأديب، الشاعر، المفكر.. كان كُلما نزل له مؤلف أكان ديواناً شعرياً، أو سرداً روائياً، أو كتاباً فكرياً أو سياسياً، أو حتى مقالاً صُحُفياً.. فإن ذلك من شأنه أن يشعل الركود الثقافي والفكري.. فتظهر الأقلام المؤيدة له والمعارضة.. ليس فقط في موطنه.. وإنما يتجاوز ذلك إلى مختلف الأوساط الثقافية على امتداد الوطن العربي الكبير.. مع إن المعارضين في الغالب هم الذين يأتون بالمناصرين لما يظهرون من خصومه!..
|
- فهو.. -أعني القُصيبي- ظل ك: مُتنبي الأمس مالي الدنيا وشاغل الناس.. أكان شاعراً أو أديباً أو مفكراً أو كاتباً صحفياً أو وزيراً أو سفيراً.!.. مع الفارق بينه وبين مُتنبي الأمس الذي ظل ينشد المنصب ويتطلع إليه في كل حياته!.. بينما أبا سُهيل.. كانت تأتيه المناصب دون سعي منه.. خصوصاً وأنه ينحدر من أسرة ثرية.. تقيه ذُل التطلع إلى منصب.. يتحول لدى البعض إلى عامل إثراء في وطننا العربي.. وفي كل زمان ومكان!!.. ولذا.. فقد مثّلَ القُصيبي ظاهرة استثنائية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى..
|
- كان القُصيبي -يرحمه الله- يتصف بإباء المؤمن القوي، وبشموخ وعزة العربي.. أصالة وثباتاً على المبادئ والتمسك بها جَهَاراً دُون خوف ولا وَجَل!.. وهو ما يميزه عن المُتنبي الذي كان ينشد المناصب ببعض قصائده، بينما القُصيبي يفقدها بشعره!..
|
- كان القُصيبي.. يتسم بنظرة شمولية نحو وطنه العربي الكبير.. وهو ما برز في مُعظم مؤلفاته.. ومن ذلك، تلك الحسرة التي ظهرت في إحدى رواياته وهو يتحدث بإيجابية عن الوحدة الفدرالية بين الولايات الأمريكية وكيف عملها الأمريكيون وأخفق فيها العرب؟!.
|
- وإن أنسى.. فلن أنسى ما حدث في نهاية السبعينات من القرن المُنصرم حينما كان وزيراً للصناعة والكهرباء وجاء إلى جامعة الملك عبدالعزيز بجدة التي كنتُ أدرس الإعلام بها.. ليُلقي محاضرة عن الصناعة، وعند انتهائه من إلقاء المحاضرة وفتح باب الحوار معه.. كان سؤالي له عن سبب دمج الصناعة والكهرباء بوزارة واحدة.. ليُجيب -يرحمه الله- عن السؤال.. ثم يتطلع في حديثه إلى المستقبل القريب حينما تصبح وزارته وزارتين.. مُتمنياً أن يتولى السائل منصب إحداهما!..
|
- لكنني قلتُ له إن السائل يمني.. وأنّى له بتولي منصب بغير وطنه؟!.. ليجيب بأن ذلك يضاعف من تفاؤله مُضيفاً:- (حينما يُصبح الوطن العربي -خصوصاً الجزيرة العربية- وحدة لا تتجزأ).. لقد تحققت العديد من طموحات وتطلعات وأُمنيات القُصيبي -الخاصة والعامة- بما في ذلك فصل الكهرباء عن الصناعة أو العكس.. باستثناء ما يخص وطنه العربي الكبير الذي كان ولا يزال مُشتتاً!..
|
- عَرف الدكتور القُصيبي -يرحمه الله- اليمن لأول مرة في نهاية عام 1965م عقب عودته من الولايات المتحدة الأمريكية بعد حصوله على درجة الماجستير في العلاقات الدولية وانضمامه إلى جامعة (الرياض) -جامعة «الملك سعود» حالياً-.. للتدريس.. حيث اختاره الملك فيصل -يرحمه الله- مُستشاراً قانونياً للجنة السعودية التي ترأسها عبدالله السديري بحسب ما نصت عليه اتفاقية جدة بين الملك فيصل والرئيس جمال عبدالناصر والخاصة بإنهاء الحرب الأهلية بين الملكيين والجمهوريين.. ليأتي القُصيبي مع السديري إلى اليمن بعد تردد كبير حسب قوله في كتابه «حياة في الإدارة».. والذي تحدث فيه عن رحلته وسكنه بشارع الشهيد علي عبدالمغني -بفندق المخا- الذي وصفه بكونه عمارة صغيرة.. كان وأعضاء الوفد السعودي «لا يُغادرونها إلا تحت حراسة مشددة».. ورغم ذلك ذهب إلى دار للسينما كانت قريبة من مقر إقامته عدة مرات.. ليمتنع عن الذهاب بعد تعرض العمارة أو بالأحرى «الفندق» الذي كان نازلاً فيه لهجوم بالقنابل.. فيصف ما حدث كما جاء في الصفحة 48 من كتابه بقوله: (لا يدري أحد منا حتى اللحظة.. هل كان للهجوم علاقة بوجودنا، أو برداءة الأفلام المعروضة؟!!)..
|
- ومع أن السلام المطلوب.. لم يتحقق في اليمن إلا بعد الخروج المصري منه.. وبعد انتهاء حصار السبعين يوماً للعاصمة صنعاء.. عبر اليمنيين أنفسهم وتوافق القوى التي كانت تتصارع في اليمن بأبنائه من عربية وإقليمية ودولية!!.. إلا أن القُصيبي استفاد من رحلته التي استمرت بضعة أيام في الخروج بمشروع رسالة للدكتوراه تكون عن اليمن.. وهو ما تحقق فيما بعد حينما حصل عليها من جامعة لندن.. انطوت كما جاء في كتابه «حياة في الإدارة» على ثلاثة فصول.. الأول يتناول السنوات الأخيرة من الإمامة، والثاني يدرس بالتفصيل الثورة اليمنية، والثالث يُعالج رد الفعل المِصري ورد الفعل السعودي بعد الثورة.. وكل فصل يتكون من عدة أقسام.. ليحصل بذلك على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية بامتياز من جامعة لندن..
|
- ومع كثرة الكتب والدراسات والبحوث التي صدرت تباعاً وهي تتحدث عن الثورة اليمنية وعن المواقف المؤيدة والمعارضة لها.. إلا أن ما قد يقوله القُصيبي في هذا الجانب قد يأتي مغايراً أو قد يأتي بجديد.. لما عُرِفَ عنه حرصه على نقل الحقائق المُجردة بجانب اتسامه بالجرأة والحيادية والثقة بالذات عند الطرح..
|
- لقد بعثتُ إليه برسالة في شهر سبتمبر من عام 1999م.. وبجانبها صور لصفحات عدة.. تتضمن توقيعات مُعظم الأُدباء والشعراء والمفكرين والصحفيين اليمنيين ممن رشحوا القُصيبي لمنصب مدير عام منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم «اليونسكو» عام 1999م.. وهي التوقيعات التي شملت مختلف التوجهات السياسية والثقافية والفكرية لهؤلاء اليمنيين الذين ترددتُ عليهم لغرض التوقيعات.. ليجتمع الكُل على القُصيبي.. وفي مقدمتهم أستاذنا الفاضل الدكتور عبدالعزيز المقالح -رعاه الله- الذي وقع على الأوراق.. ثم قال لي.. بحضور بعض الزملاء والمراجعين بمكتبه وبالنص: «مع إن القُصيبي مُؤهل لإدارة منظمة (اليونسكو) علمياً وعملياً، وسيخدم الثقافة العربية من خلالها إن تحقق وصوله إليها.. إلا أنني رُغم ذلك لا أعتقد أن الغربيين سيرضون بعربي على رأس هذه المُنظمة.. مهما كانت مؤهلاته.. على الأقل في المستقبل المنظور.!!»
|
- هكذا قال الدكتور المقالح بالنص كما سجلتُ ذلك خطياً في حينه.. وهو ما نقلتهُ للدكتور القُصيبي قبل الانتخابات الخاصة بإدارة هذه المنظمة بأشهر.. وما قاله الدكتور المقالح حدث فيما بعد مع الدكتور القُصيبي، وتكرر مع وزير الثقافة المصري «فاروق حُسني»!!..
|
- أقول.. بعثتُ إلى القُصيبي برسالة إلى لندن مقر عمله كسفير لبلاده.. واستفسرتُ منه فيها عن كيفية الحصول على نسخة من بحثه الخاص برسالة الدكتوراه؟!.. فأجابني -يرحمه الله- برسالته الجوابية المؤرخة في 27-10-1999م.. والتي شكر فيها: «موقف اليمن المُشرف، وموقف مُثقفيها العظيم من قضية اليونسكو» بأن الرسالة لم تُطبع ولم تُترجم.. وأنه يُمكن الحصول عليها من جامعة لندن.!!
|
- لقد تساءلتُ مع نفسي وما زلت.. لماذا لا تهتم وزارة الخارجية برسالة الدكتوراه هذه والتي تناولت أهم فترات الصراع الذي شهده اليمن بعصره الحديث؟!! سواء عبر قنواتها الخاصة أو عبر سُفرائها الذين تعاقبوا على العمل في لندن.. بما فيهم الأستاذ الدكتور حسين بن عبدالله العَمرِي.. الذي لا يختلف اثنان على مدى قُدراته العلمية والفكرية والبحثية.. والذي أحيا العديد من التراث اليمني.. بما في ذلك كتابه القيم: (مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني)؟!.. إنه مُجرد تساؤل فحسب!!..
|
- ألف الدكتور غازي القُصيبي.. العديد من الكتب المتنوعة في الأدب شعراً ورواية، وفي الفكر والثقافة والتنمية والسياسة وكلها طُبعت عدة مرات لأهميتها، ولما تمثله من توجهات جريئة.. وعبر أسلوب شيق يشد القارئ.. ويظل حديث المنتديات الخاصة والعامة.. أكان ذلك شعراً أم نثراً.. وإن كنتُ شخصياً أعتبر كتاب (حياة في الإدارة) في مقدمة مؤلفاته الفكرية والثقافية.. والذي جاء بمثابة سجل شامل للتطور التنموي الذي شهدته السعودية.. وبمثابة مرجع في العمل الإداري وكيفية ممارسته.. بل وبمثابة مادة سياسية بعرضه وجوهره.. إضافة إلى اقتحام المؤلف بهذا الكتاب للبيروقراطية ومتاريسها التقليدية بكل شجاعة وثقة.. فكم يتمنى أمثالي أن يقرأ هذا الكتاب كل وزير يمني وقيادي ومسؤول وأستاذ وكاتب وصحفي.. فالكل بحاجة إلى قراءته ليتعلم الجميع كلٌ في مجاله من صفحات (حياة في الإدارة).. الذي طُبع أكثر من ثلاث عشرة مرة خلال فترة وجيزة..
|
- وكنت أحسب أن آخر مؤلفات الدكتور غازي القُصيبي هو كتابه: (الوزير المُرافق) والذي يحكي قيام المؤلف بدور الوزير المُرافق لبعض رؤساء وملوك زاروا وطنه.. أيام كان وزيراً.. بجانب مُرافقته للملك ولولي العهد.. وعبر الأسلوب الأدبي، والسرد القصصي الذي لا يخلو من الابتكار والمفاجآت المفرحة والمضحكة في آنٍ واحد.. كما هو ذلك في مُعظم مؤلفاته الأخرى.. إلا أنني قرأتُ في صحيفة (الحياة) يوم 17-8-2010م أن روايته: (الزهايمر) هي آخر مؤلفاته!.. والتي كتبها وهو على فراش المرض يُعاني من (السرطان في الأمعاء).. وهي حسب صحيفة (الحياة) تتحدث عن نظرة المؤلف لأمور طالما شغلته سابقاً وشغلت أبطاله الروائيين.. كالشيخوخة، والذكريات، والموت، والحُب، والنسيان، وعن الاحتضار الطويل الذي عاشه المؤلف.. مما يعطي دلالة على مدى تعلق الفقيد بالمجالات الثقافية والفكرية حتى آخر رمقٍ من حياته.. ليكون بذلك قد عاش كاتباً ومات كاتباً..
|
- ومع غزارة الإنتاج الفكري والثقافي للقُصيبي عبر مؤلفاته العديدة والمتنوعة التي تتعدى العشرات، والتي ظلت بعضها ممنوعة التداول في وطنه طيلة ثلاثين عاماً.. حتى بداية شهر أغسطس الجاري أي قبل وفاته بأسبوعين.. حينما أصدر وزير الثقافة والإعلام السعودي قراراً يقضي بالسماح بتداول جميع كتب الشاعر والأديب والوزير الدكتور غازي القُصيبي!..
|
- أقول.. مع غزارة مؤلفات القُصيبي.. فقد كانت له أيضا مقالات صحفية في العديد من الصحف العربية.. وإن أنسى فلن أنسى مقالاته التي كان يسطرها بصحيفة: (الشرق الأوسط) أيام الغزو العراقي للكويت وعبر عمود يومي بعنوان «في عين العاصفة».. فحينما كان ينتقد الموقف اليمني الرسمي من هذا الغزو ببعض مقالاته كان يختم المقالة بالاعتذار الجمّ من مَعري اليمن.. يقصد بذلك الشاعر الكبير الراحل عبدالله البردوني.. الذي كان القُصيبي مُعجباً به أيما إعجاب!.. وبنفس تلك الفترة وحرب الانفصال لا تزال مُستمرة نشرت له صحيفة (الحياة) قصيدة بعنوان: (برقية عاجلة إلى بلقيس) والتي حار في بدايتها لمن يُوجه اللوم بما كان يحدث:
|
«ألُومُ صنعاءَ يا بَلقيسَ أم عَدَنَا |
أم أُمةً نسيت في أمسِها يَزَنا؟» |
ذلك أنه كان مُستغرباً أن تحدث تلك الحرب من أُمة هي يمنية الأمن والأمان والإيمان والحكمة:
|
«أم أُمةٌ عجباً ميلادُها يَمَنٌ |
كم مَزَقت يمناً..كم قطَعَت يمناَ؟» |
خائفاً على مصير «الوحدة» التي أظهر حُبَهُ وافتتانهُ بها:
|
«ألُومُ نفسي يا بَلقيسَ كُنتُ فَتىً |
بفتنةِ الوحدةِ الحسناءَ مُفتَتِنَاً..» |
ومُندهشاً لما يجري عليها من الغدر ممن كان له دورٌ في صِنَاعَتِها:
|
«ألُومُ نفسي يا بَلقيسَ أحسِبُني |
كُنتُ الذي باغتَ الحسناءَ..كُنتُ أنا!» |
- فلم يجد في نهاية قصيدته تلك.. إلا مُخاطبة الملكة بلقيس لتخاطب رجالها، وعبر صورة مؤدبة وقمة في الأخلاق والشهامة والنبل والسمو حينما وصفهم بالرجال والأقيال!.. كم يُلاحَظ ذلك في الثلاث الأبيات الأخيرة من قصيدته أو من برقيته لبلقيس.. والمُتصدرة لهذه المقالة..
|
- لقد عرفتُ الشاعر والأديب غازي القُصيبي.. مُنذُ كان وزيراً للصناعة والكهرباء.. وزاد حرصي على استمرار العلاقة تتبُعي لكل ما كان ينتج من شعر ونثر ومقالات صحفية.. وإعجابي غير المحدود بكل ما كان يطرح.. وهو ما كان يدفعني أحياناً إلى مُراسلته -خصوصاً أيام كان سفيراً بلندن- مُبدياً إعجابي وبعض استفساراتي حيال ما كان يطرح.. فكان -يرحمه الله- يرُد عليّ بكل محبة وتواضع.. رُغم كثرة مهامه وزحمة أعماله وارتباطاته الرسمية والعامة.. وهو ما كان يتكرر حينما كنتُ أقوم بزيارته في مقر عمله بالرياض.. حيثُ كنتُ أتفاجأ حقاً من تواضعه الجمّ وترحيبه الحار وسُرعة موافقته على لقائي الشخصي به.. أقول كنتُ أتفاجأ -كون ذلك التواضع يأتي من ذلك الرجل والوزير الاستثنائي- صاحب الكاريزما الشخصية والألقاب والمناصب الرفيعة- والإنتاج الشعري والفكري والأدبي!.. وهي الصفات التي قلما اجتمعت بغيره!!..
|
- وكان آخر لقاء شخصي جمعني بالقُصيبي -يرحمه الله- في شهر مارس من عام 2008م حينما زُرتُهُ في مكتبه بوزارة العمل بالرياض.. مُصطحباً له كعادتي بعض آخر ما نزل من إنتاج فكري وأدبي يمني.. وقبل انتهاء زيارتي تلك بلحظات.. أوصيتُهُ خيراً باليمنيين المُقيمين بوطنهم الثاني -بحكم طبيعة عمله- حينها قال لي: هل تحدثني هنا بصفة رسمية؟ أجبتُهُ بالنفي.. لانتفاء الصفة ذاتها عني!!.. مُضيفاً بأن حديثي معه يأتي باعتباري تلميذاً له.. وهو ما قد يُبعد بعض الحواجز بين الأستاذ وتلميذه.. ثم كيمني يحس ببعض معاناة بعض المغتربين حسب ما يقرأ ويشاهد أحياناً!.. حينها قال لي كلام كثير.. ومن ذلك حديثه عن آخر مسؤول يمني زاره قبل أسابيع والذي وصفه أو بالأحرى وصفها بالاتزان والنباهة والإنسانة الأكاديمية.. لكنه «والكلام هُنا للقُصيبي» كان ينتظر من تلك المسؤولة اليمنية طرح بعض أهم المشاكل التي يُعاني منها المغتربون اليمنيون في السعودية والتي يُمكن بعد دراستها ومدى قابليتها للحل.. وضعها رسمياً أمام مجلس الوزراء السعودي!!.. مُستغرباً -يرحمه الله- من عدم طرحها لذلك وأن ذلك تكرر معه من غير مسؤول يمني قابلهُ قبلها!!..
|
- ليكون ذلك هو آخر لقاء شخصي جمعني به -يرحمه الله- مع أني عقب خروجي من مكتبه لم أستغرب مما حدث كاستغرابه هو.. خصوصاً لمعرفتي كغيري أن المناصب الوزارية والقيادية والدبلوماسية وغيرها.. لا تُعطى في وطني اليمني أحياناً لمن هو جديرٌ بها، ويحمل ولاءً حقاً لوطنٍ وشعب!..
|
- وكأني بالقُصيبي- يرحمه الله- يُخاطب هؤلاء ومن هم وراء هؤلاء بذلك البيت الشعري الذي جاء في نهاية برقيته العاجلة لبلقيس:
|
«قُولي لَهُم يَا رِجَالاً ضَيّعوا وطناً |
أمَا مِنِ امرأةً تَستَنقِذُ الوَطَنَا؟!..» |
- وبقدر ما جاء ذلك الاستفهام والتطلع في الشطر الثاني من هذا البيت قبل أكثر من ستة عشر عاماً.. فإنه لا يزال كذلك حتى اليوم بل وبصورة أكثر تطلُعاً وأشد اشتياقاً!..
|
- لقد كان العديد من الزعماء والوزراء وكبار القادة والمسؤولين العرب.. يظلون معلومين عبر ما تنشره الصحف ووسائل الإعلام عنهم.. ليُصبحوا مجهولين لدى الخاصة والعامة فور ذهابهم من مناصبهم أكان ذلك في حياتهم أو بمماتهم.. لكن القُصيبي الذي جمع بين العمل السياسي والثقافي في آنٍ واحد.. بين رجل الدولة، ورجل الإبداع.. «القُصيبي» الذي امتاز بثقافة موسوعية برزت في العديد من الجوانب.. وخلّف تراثاً فكرياً وأدبياً.. سيظل هو ذلك المعلوم لدى العام والخاص على السواء.. فالمرء يبقى حياً ومشهوداً بما يترك من ذكرٍ حسن وما يُخلف من آثارٍ وسنن!..
|
- إن الكلمات مهما كانت بلاغتها وقوة انفعالها ومصداقية طرحها.. تجاه الفقيد الراحل قد تظل صدى يتردد بعد رحيله.. لكنها لن تفيه بعض حقه.. ولن تُعبِّر عن شيء من مآثرهُ الخالدة..
|
- وَلَكَم بكاهُ المُحبون، ونعاهُ الناعون، ورثاهُ الشعراء، والصحفيون.. وكل ذلك لن يكون أبلغ مما نعى به نفسه قبل رحيله.. حينما قال بإحدى قصائده -يرحمه الله- التي نشرتها له (الجزيرة) خلال فترة مرضه:
|
الطير هاجرَ.. والأغصانُ شاحبةٌ |
والورد أطرق يبكي عهد آذارِ.. |
إن سَاءَلُوكِ فقولي- لم أبِع قلمي |
ولم أُدنِس بسوق الزيف أفكاري.. |
وإن مَضيتُ فقولي- لم يكُن بَطلاً |
لكنه لم يُقبِل جبهةَ العار!» |
- طِبتَ حَياً وميتاً.. أبا جدة - فيصل المران «يارا»- ورحمةُُ اللهِ تغشاك...
|
|