Al Jazirah NewsPaper Thursday  26/08/2010 G Issue 13846
الخميس 16 رمضان 1431   العدد  13846
 
عاش حميداً ومات فقيداً
سعود مشعان الدخيل

 

إنني حزين كل الحزن على الراحل العظيم، ويعز علي أن أكتب كلمة في تأبينه، إنها كلمة صدق يفيض بها قلبي والفقيد في مثواه كما نطق بها لساني وهو متمتع بالحياة، كان رجلاً يتحلى بالعلم من غير رياء ويتجمل بالإباء من غير كبرياء وتصونه العزة من غير غطرسة وتقربه إلى النفوس سماحة تعلو على التبذل ويسمو به تواضع لا يهبط إلى الخنوع، ففي ذمة الله عالم كريم عزيز عاش عمره يؤدي زكاة العلم وانتهى بتأديته زكاة الحياة، وحزن الوطن على الخسارة الفادحة التي أصيبت بها دنيا التأليف والإبداع، لقد عالج القصيبي جميع مشكلات مجتمعنا وكتب ألواناً لا أول لها ولا آخر من الإبداعات، ولذلك فإنه فاق كثيرين من الكتاب في كم وجودة هذا الإنتاج، مجرد وجهة نظر خاصة أتحدث بدون شك عن الأهمية الكبيرة التي أعلقها على مؤلفاته الأدبية والاهتمام الذي يثيره (القصيبي) السياسي والكاتب الناقد، لقد أصبح الفقيد (قيمة عربية عامة) لا سبيل إلى اقتلاعها من ثنايا الفكر العربي الحديث، وقصارى أي بحث جديد أن يقف عند عنصر واحد من عناصر هذه القيمة الفكرية ليحللها أو يفسرها أو يؤرخ لها، سيظل أمداً طويلاً مجالاً خصباً لهذا الضرب من الدراسة لتعدد جوانب الإبداع فيه ورحابة آفاقه وشموخ مواقفه الفكرية وكثرة مساجلاته وخصوماته الأدبية وانفساح مناحي شخصيته، وسيظل الخلاف ناشباً والاجتهاد متباعداً في التحليل والتفسير ومع ذلك سيظل الإجماع منعقداً على ضخامة هذه الشخصية وتاريخها.

كتابة (حياة في الإدارة) مثل صارخ على حرية الرأي وممارستها في الواقع العملي، هجم على موضوعاته هجوماً وهو يعلم أن سخط الساخطين عليه سيكون أكثر من رضى الراضين، فلم يصانع ولم يتستر وإنما جهر بالرأي في وضوح صاخب وكرره وأكده بأساليب شتى، فكان بنفسه وبكاتبه نموذجاً حياً رائعاً لأستاذ الجامعة وحريته في الجهر برأيه ونبراساً ينير الطريق بشعاع الفكر الحر الذي يتحدى السكون والركود والظلام، إن مؤلفاته الكثيرة المبسوطة بين أيدينا وإن محاضراته في كلية التجارة وإن بحوثه في مجلات الوطن وإن مذكراته وتقاريره كل أولئك يشهد بأنه كان عالماً مجدداً مبدعاً خلاقاً يتسم بطابع مميز وأسلوب جميل هو أسلوب السهل الممتنع، فضلاً عن بساطة تحليلاته التي يستفيد بها كل ذهن وكل عقل على مختلف المستويات وهذه قلما توجد في شخص واحد، لقد كان القصيبي عدة مبدعين في مبدع واحد، كلما ذكرناه ازددنا إعجابا بهذه الشخصية الجاحظية الموسوعية والإرادة الصلبة والطموح الشامخ مقيماً على نهج من القول واضحاً.

إن مملكتنا سليلة العروبة لتفخر بابن من أعز أبنائها تفخر بهذا العلم الشامخ وتقول: هذا ابن من أعز أبنائي أتاني يلتمس النور والضياء فلم أضن عليه بما لدي من قبس في جامعتي، وكان باراً بي منفتحا في هذا القبس من نفسه المضيئة وجعله نوراً يملأ الوطن والدنيا من حولها، قوة عريضة نشيطة منتجة يوثق بها ويعتمد عليها، فيا لك من حزم وعزم وعلم طواهم اليوم جديد الردى تحت الثرى.

رحم الله أخانا القصيبي كان كرسيه في المؤتمرات متميز الوجود مرموق المكانة ظاهر العظمة، وكان جهده في أعمال الدولة والوزارة واضح الأثر داني الثمر خصب الإنتاج، وكان مكانه في قلوب الناس - كل الناس - مكان: المخلص القوي الأمين، يناقش الرأي في صراحة ويدلي بالحجة في منطق ويقيم الدليل في وضوح، يسكت حين يحسن السكوت ويتكلم حين يجب الكلام، لم يتردد يوماً عن نصرة ما يراه حقاً ولم يتوان أبداً عن مهاجمة ما يعتقده باطلاً، لم يشايع صديقاً في باطل لصداقته ولم ينازع خصماً في حق لخصومته، لم يرهب في صدقه من كبير ولم يرغب في الكذب حتى على الصغير، غاب عنا إلى رحمة الله تحوطه قلوب مواطنيه وتلامذته ويعزيه إعجاب العلماء في الشرق والغرب حيث سيبقى ذكره خالداً أبداً.. رحم الله تعالى أبا يارا جزاء ما قدم عاش حميداً ومات فقيداً.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد