أطلعني أحدهم على مدونة قصيرة، تتكون من صفحة وبضع كلمات، تتضمن التعريف بشعار المملكة العربية السعودية، ووصف مكوناتها، وتحديد تاريخ استعماله، مستندًا في ذلك إلى ما استله - كما يقول - من موقع إحدى كبريات الوزارات المهمة، في موقعها على الشبكة العنكبوتية، بشأن ذلك الرمز.. وقد شد انتباهي ما ساقه من معلومات، من بينها تاريخ استخدام الشعار، وتحديد استعماله، بعام 1350هـ (1930) ووضعه على مطبوعات الوزارات ولوحات أرقام السيارات.. وملاحظته للاختلاف في مقاسات انحناء السيفين، وفروع جرائد النخلة، التي تتوسطها، كما يبدو في الشعار الذي رآه على الموقع!!
وبغض النظر عن صحة ما ورد في سرد تلك المعلومات، فإن ما يهمني هو أن أتحدث عن عصر ظهور (الشعار) وبعض الأنماط الأخرى من الرموز، والشارات في عصور الحكم الإسلامي المتوسطة، إلى أن أضحت تلك (الرموز)
و(الشارات) محل اهتمام الدول المتحضرة، والحديثة، بما فيها المملكة العربية السعودية، التي نص نظام الحكم الصادر برقم أ/90 في 27-8-1412 هـ. على اتخاذه ووصفه. فالحديث حوله لا يبعد كثيراً عن الخوض في الأعمال التاريخية، وعما يمكن أن يتحقق من صواب، أو تعديل، أو رؤى قد تسهم في رفع الوعي التاريخي والحضاري لبلادنا.
فالرمز (الشعار) كان من الرموز التاريخية الموغلة في القدم، عرض بصورة مميزة في العصر الأيوبي، واشتهر شعار السلطان صلاح الدين الأيوبي، كما اشتهر استخدام الشعار بصورة أوضح، في عهد سلاطين مصر؛ حيث كانت مصر - آنذاك - إحدى البلاد الإسلامية الكبرى، وكانت العناية بمظهر الشعارات في زمن أولئك السلاطين مشهورة، حتى وجد لكل تابع من أتباع السلاطين شعار يدل على نوع وظيفته، وقد يوجد رسمه على بعض ممتلكاته، وقد بلغ من الاهتمام بالشعار أنه بعد استقلال مصر عن الدولة العثمانية، صدر أمر ملكي بتحديد شعار خاص بالمملكة المصرية، ومازال يجري عليه بعض التعديلات بموجب مراسيم، أو أوامر تنشر في الصحف الرسمية!!
والشعار دائماً يكون من عنصر واحد أو أكثر، وقد يكون بسيطاً أو مركباً يوضع على المساكن والأماكن المنسوبة إلى صاحبه، وعلى كل ما له صلة بالأبهة كزينة الخيل أو الجمال.. وقد يوضع على السجاد أو السيوف أو الأقواس، أو الدروع، أو الأدوات المعدنية، أو الخشبية، والزجاجية المعدة للزينة أو للاستعمال!! وقد تطور هذا المفهوم للشعار، بتطور منطق العصر والدول، ونظمت القوانين في تحديد شكله، وفرض العقوبات عند إهانته، أو إهانة العلم، إذا كان خاصاً بالدولة.
ولم يزل الشبه قائماً بين ما كان في الزمن الماضي، وبين ما حدث في الأمس القريب، حيث أصبح الشعار رمزاً أو عنصراً أو صورة يستخدم لتمثيل الدولة، أو لتمثيل المدينة أو المنظمة أو الاتحاد، أيَّا كان نوعه.. وقد يستعمل الشعار كعلامة تجارية، أو لخصوصية شيء معين لتوضيح فكرة ما.
وهنا، لابد من الإشارة إلى أن الشعار، في المملكة العربية السعودية، عمل به بعد انضمام الحجاز إلى بقية أجزاء المملكة، بقيادة المؤسس الملك عبد العزيز الذي استوعب الكثير من الرموز والشارات ضمن استيعابه للتطور الإداري والعمراني، وكل ما له علاقة بتاريخ الحضارة العربية والإسلامية من شارات مهذبة، أخذت بها الدول الحديثة، ومن بينها الشعار.ومع أننا لم نعثر على أي نص تحدث عن استخدام هذا الشعار، أو تاريخ استخدامه في البدايات الأولى عندما تم استعماله، موشى به هامش العملات الرسمية، حيث شهد عام 1346هـ (1927م) التطورات النقدية في العملات الرسمية، التي كان أولها إلغاء الملك عبد العزيز التعامل بجميع العملات النقدية المتداولة، سواء كانت عثمانية أو هاشمية أو غيرهما. وأمر بطرح نقوده الجديدة التي تحمل لقبه على كل النقود التي جرى سكها من المعدن. ثم قام بطرح أول ريال عربي سعودي خالص، جرى سكه من الفضة. كما جرى تصميم أجزائه بشكل مميز، اشتمل على عبارات وأرقام نقشت على هيئة كتابات مركزية، وأخرى هامشية، وقد تضمن الهامش لقبه آنذاك (ملك الحجاز ونجد وملحقاتها) كذلك (شعار الدولة) سيفان متقاطعان، داخل شكل شبه مستطيل، نقش بجانبه نخلتان، وفي المركز تاريخ سك الريال، في مكة المكرمة، عام 1346هـ (1927م) كما تم إصدار عدد من الطوابع السعودية تحمل هذا الشعار في أول عام 1348هـ (1929م) بمناسبة ذكرى الجلوس على العرش.
ويظهر أنه ليس لظرف تاريخي أو يد في إحداث ذلك الشعار، غير واقع الحال، ثم الاستمرار والتعديل طيلة حياة الملك عبد العزيز، وقد تأكد ذلك في حياته، ثم في حياة الملك سعود، ثم في حياة الملك فيصل.. بدليل أنه صدر أمر ملكي في عهده برقم م/3 في 10-2-1393هـ يخص نظام العلم السعودي، كما يخص استحداث العلم الخاص بالملك، ويتكون من العلم الوطني نفسه، مضافاً إليه شعار المملكة العربية السعودية باللون الذهبي في الركن الأيمن، أدنى العلم.
وأخيراً، في عهد الملك فهد - رحمه الله - صدر نظام الحكم برقم أ/90
في 27-8-1412هـ وقد تضمنت المادة الرابعة منه، النص على أن شعار الدولة سيفان متقاطعان، ونخلة وسط فراغهما.
وكان أقدم من تحدث عن (الشعار السعودي) وكتب عنه هو الأستاذ (فؤاد حمزة) المستشار في ديوان الملك عبد العزيز، وأحد أبرز رجالات وزارة الخارجية السعودية آنذاك.. تحدث عن الشعار في أول كتاب له خطه عن المملكة العربية السعودية، ونشره عام 1355هـ (1935م) عندما شعر خلال أسفاره الكثيرة للخارج، أن الكثير من الإعلاميين والصحفيين، كانوا يجدون نقصاً في المعلومات عن مملكة عبد العزيز الحديثة، وفي ذلك الكتاب قال: إن للملكة علم واحد، وهو علم صاحب الجلالة، المؤلف من أرضية خضراء عليها سيفان متقاطعان، فوقهما (لا إله إلا الله محمد رسول الله) كما ذكر أن شعار المملكة مؤلف من سيفين متقاطعين.
وفي السياق نفسه، تحدث عن الشعار الأستاذ (خير الدين الزركلي) في كتابه (شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز) الذي بدأ في تدوينه أيام الحديث عن قرب مرور خمسين عاماً على استرجاع الملك عبد العزيز لمدينة الرياض، واستعادته للحكم. وقد تأخر الزركلي في طبع كتابه إلى عهد الملك فيصل، وأشار بدوره إلى أن العلم والشعار في المملكة العربية السعودية هما للملك وللدولة معاً. ولم يوضح الزركلي ولا فؤاد حمزة، مع قربهما من الملك عبد العزيز وصلتهما العميقة والطويلة بالبدايات الأولى للتنظيمات الإدارية والحضرية للمملكة العربية السعودية، أكثر من ذلك كما لم يسندا القول إلى قانون أو أمر يعرفانه!!
وفي وقت متأخر من حياة الملك فيصل كتب الدكتور عبد الرحمن الحمودي، أحد رجال المراسم الملكية، كتاباً مميزاً عن أعمال المراسم الملكية وعن وظائفها، أشار فيه إلى صدور الأمر بنظام العلم، واستحداث العلم الخاص بالملك، وكرر ما أشار إليه من سبقه من أن المملكة العربية السعودية قد اتخذت شعاراً خاصاً بها، يستخدم في جميع مطبوعاتها الرسمية يتكون من سيفين متقاطعين تتوسطهما نخلة، وأضاف: ويرمز الشعار إلى الرخاء والازدهار، وأنهما لا يتوافران إلا عن طريق إقامة العدل!!
كما أشار إلى نقطة مهمة حول موضوع الشعار، وهي: أنه لا يوجد وصف رسمي للمقاس أو اللون لذلك الشعار، غير أن الغالب يكون لون السيفين مذَّهباً وجذع النخلة باللون البني، وسعفهما باللون الخضر.
أما المقاس فيكون مناسباً مع المطبوعات التي يعلوها، وهو بهذا يشير إلى الشعار المضاف إلى العلم الوطني، كي يمثل علم جلالة الملك.
وللحقيقة والتوثيق، فإن أول أمرٍ سامٍ أعلن فيه عن نظامية الشعار، وأنه خاص بالدولة، دون أن يشار فيه إلى وصف أو لون أو عنصر أو أبعاد أو اتجاهات هو ما أشرنا إليه من صدور نظاميته ضمن نظام الحكم الصادر في 27-8-1412هـ، في عهد الملك فهد بن عبد العزيز - رحمه الله - بموجب أمر ملكي وفق ما أشرنا إليه من تتبع تاريخي، وهو ما صدر من صورة له على عملة الريال عام 1346هـ (1927م) حيث وضع على مادة صلبة ذات قيمة، ثم عدل موضع النخلتين إلى نخلة واحدة، توضع في الفراغ بين السيفين، ومازال هذا الشعار يستخدم على المطبوعات والعملات السعودية، دون أن يكون في استخدامه يدٌ أو ظرف في شأن تصميمه، سوى أسلوب التعامل مع الرموز والشارات في سلطة الحكم والدولة، حيث تفرض تلك الشارات نفسها، فتُتخذ قاعدة دون أن يذكر بشأنها مرسومٌ أو أمر. وهذا ما ميز بعض الدول ذات التاريخ العريق، التي ظلت محافظة على قوانين الحكم فيها، دون أن يكون مطبوعاً أو مدوناً في سجل!! لذلك جاء نظام العلم، كما جاء التعريف بالشعار في المملكة العربية السعودية متأخراً، ليس ليضيف جديداً، لكن ليؤكد نظاماً جماعياً سكوتياً، وليذكر برمز راسخ منذ عشرات السنين، أو للإشارة عما جد حوله من دلالة أو خصوصية على استعماله، وهو أمر ليس خاصاً بالعلم والشعار فحسب، بل يكون عاماً للكثير من (الشارات) و(الرموز) التي تحدث عنها علم التاريخ، وعلم الاجتماع، في مسيرة ذات جذور، تنسب إلى الخلفاء والملوك والسلاطين،
مما ذكره ابن خلدون، في مقدمته، الجزء الثاني فصل (63) عندما استطرد في الحديث عن المذاهب السياسية عند المسلمين، وعن شارات الملك، ووظائف الدولة، ونظمها الإدارية، بعد أن تعرفوا على ما لدى غيرهم من الفرس والروم وبعد أن تم الاختلاط بهم، وتقبلهم، فكان مما استحسنوا استخدامه شارات وشعارات ووظائف حضرية!!
كما تحدثت كتب تاريخية قديمة، بمثل ما تحدث به ابن خلدون في إشارات إلى رموز قريبة الشبه بما هو شائع في أيامنا هذه، مع شيء من الاختلاف في الاسم والمضمون والنهج، مما سوف أتحدث عنه بتنويع وشمول مستقبلاً إن شاء الله.
وكل ما يهم الآن أن أقدم منظوراً تاريخياً موثقاً من شأنه أن يكون إسهاماً في طريق بث الوعي بين شبابنا من الباحثين، للتوصل إلى ربط حلقات تاريخنا بتاريخ الأمم والشعوب المتحضرة، ودمج مختلف الجوانب بدائرة أوسع وأفق أرحب، فما زال السجل التاريخي لبلادنا يشكو من الضمور في مختلف زواياه، وبعده عن رؤية المؤرخ والدارس، بينما يمتاز تاريخ غيرنا بالتوثيق وتناول الأحداث والشارات والرموز.. يحدث ذلك في مراجع وتاريخ دول أحدث وجوداً وأقصر تاريخاً.
والله ولي التوفيق