Al Jazirah NewsPaper Friday  27/08/2010 G Issue 13847
الجمعة 17 رمضان 1431   العدد  13847
 

تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
د. عبدالحليم بن إبراهيم العبداللطيف

 

هذا العنوان مقتطع من صدر بيت من الشعر يعتبر بحق وصدق من عيون الشعر الجيد الرصين الذي كثيراً ما يورده أصحاب الشأن في مناسبات عدة عند الإشادة بجهد أو عمل مميز لرمز من الرموز البارزة في الأمة والبيت بكامله يقول:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم

إن التشبه بالرجال فلاح

وكلمة رجال أو الرجال تقال في باب المدح والإشادة بنوع خاص من الرجال وهم الجادون المخلصون المهرة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من الأمانة والديانة والصيانة وقد استعملها القرآن في باب الإشادة بصنف معينَّ من الرجال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} وقد وصف الواصف وأبدع وأمتع حال الصحابة فقال: (فإذا جد الجد فهم الرجال) وفي تراثنا الأدبي ما يمتع ويقنع في ذلك وقد كتب الكثير من الأوفياء والأصفياء عن كثير من الرموز في مختلف العصور وبينوا مناقبهم وصفاتهم الجميلة ووفاءهم بعهدهم ونصحهم لأمتهم وقيامهم بواجبهم المنوط بهم خير قيام وقد أوردت في مقال سابق نماذج من هؤلاء الصفوة لما تحدثت عن المسجدين الشريفين في مكة والمدينة وهم وهممهم القائمين عليهما وإبرازهما بالصورة المشرفة اللائقة بهما وجاءت وفاة الشاعر والأديب البارع معالي الدكتور غازي القصيبي لتضيف شاهداً جديداً ومفيداً ومثلاً ومثالاً حياً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وأنا هنا لن أتعرض لشعره ونثره وتألقه في عالم الفكر والأدب وإن كنت ممن يهمهم هذا الشأن لكنني لضيق المكان ولأني قد كفانيه من سبقني إليه وشهرة الرجل ومكانته في هذا الميدان أشهر من أن تذكر لكنني سأتناول ما يخص الجانب العملي والإداري في حياته المليئة بالنجاحات وهو وأمثاله الذين نحسبهم والله حسيبهم {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} وفي الأثر (لا تجمع أمتي على ضلاله) ومن سعادة الأمة أن يوجد من بين قياديها وحتى موظفيه العاديين رجال صادقون مخلصون أمناء تسامت أنفسهم عن مهاوي الرذيلة والأماكن الآسنة أليس الحق يقول: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} وإن من مظاهر الرقي والسعادة في كل أمة انتظام الجهاز الإداري بحيث غايته وإنما يتم ذلك بأمرين:

أولاً: رئاسة حازمة حاسمة يقظة صادقة لديها الولاء للمهنة والتخصص الدقيق فيها.

ثانيهما: موظفون أكفاء أمناء يملؤون وظائفهم بعملهم وعملهم وخلقهم وأمانتهم ونشاطهم وهمهم واهتمامهم إن اتصاف الإدارة أيا كانت بالحزم والعزم واليقظة أمر في غاية الأهمية وما زال الحزم قديما وحديثاً من أبرز الصفات والسمات للقائد المنتج وما زال الضعف والضعفاء والتردد والتبلد من أسوأ الصفات وقد يظن بعض البلهاء وإن شئت فقل السفهاء أن الحزم معناه الاستبداد والاستعباد وهذا خطأ بين فقد ظهر جليا لكل ذي عينين أن الحزم والعزم والمتابعة الجادة من أرقى النظم الإدارية وهذا شاهد محسوس في جميع دنيا الناس وحسبنا في هذا أن تذكر حزم ابي بكر في قتال المرتدين حيث تردد الصحابة ومنهم عمر، ويقظة الرئيس في مراقبة ومحاسبة موظفيه والإحاطة بسيرتهم وسلوكهم وأمانتهم من أبرز مظاهر الحزم ومن المشاهد بالعيان أن الإدارة التي ترزق رئيساً أمينا حازماً حاسماٌ يقظاً (ليس الحب ولا يخده الحب) تكون من أفضل وأنبل الإدارات وأنجحها وأنفعها للبلاد والعباد وحين يذكر التاريخ عمراً بالإكسار والإعجاب يضع في مقدمة صفاته وسماته التي مكنته من النجاح والفلاح حزمه وعزمه ويقظته فقد كانت عيناه لا تغفل عن مراقبة عماله ورجاله حتى كان عماله مهما نأت به الديار يظنون دوماً أن عمر وراءهم (عدلت فأمنت فنمت) قال عنه الجاحظ وصدق عِلْمُهُ بمن نأى عنه من عماله ورعيته كعلمه بمن بات معه في مهاد واحد ووسادٍ واحد وكتب إلى أبي موسى الأشعري ومما جاء في كتابه فإياك يا عبدالله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بواد خصيب فلم يكن لها هم إلا السمن ومن المؤسف حقاً أن بعضاً من الموظفين ينسى أنه أجير لهذه الأمة فترى الواحد أحياناً يتأخر كثيراً ويكثر الخروج والولوج بسبب وبدونه والآخر يأتي متأخراً ويغلق بابه ويشغل نفسه بما لا طائل من ورائه من التحدث بالهاتف أو مع زميل أو صديق بينما أصحاب الحاجات واقفون على الأبواب على أحر من جمر الغضى وقد يدخل صاحب الحاجة فيلقى وجهاً عابساً وقد ينهره إذهب تجد حاجتك غداً أو بعد غد وكثيراً ما يكون مريضاً أو غريباً أو فقيراً أو مسناً وأسوأ من ذلك ألا ينهي حاجته إلا بعد الواسطة والزلفى وهذا كله من مظاهر التخلف الاجتماعي لا يدل على فهم ولا علم ولا يقظة ضمير إن سوء الأمانة وسوء المعاملة وضعف المسؤولية لا تزيدهم عند الله وعند الناس إلا بغضاً ولو رجعنا إلى سيرة سلفنا الكرام لرأيناهم في عملهم ومعاشهم وعلاقاتهم نماذج حية بهية لنضج التفكير وسلامة الحواس ودقة الأقوال والأفعال والأحكام وكم في عالم الإدارة من ببغاوات تجري على ألسنتهم كلمات جليلة فإذا ذهبت تبحث عن حقائقها في نفوسهم وأعمالهم وجدت الفراغ أو وجدت النقيض وهو الكثير والإداري الناصح هو ذلك الرجل الذي خلت نفسه من شهوات الأرض البغيضة وأكدار الدنيا وانتشرت في أرجائه المعطيات الحية فهي تبرق في شمائله ومسالكه وأرفع الناس مكانة أزكاهم خلقاً وأعرفهم بحقوق الله وحقوق خلقه وأسرعهم إلى مرضاة الله ونفع عباده إن الذين وهب الله لهم سعة الفكر وصفاء الضمير فعملوا بإخلاص وقدروا نفاسة المبادئ والمثل هم القدوة حقاً ومن حق الأمة أن تفخر وتفاخر بهم والثناء على الأخيار والأبرار ومن قدموا خيراً إنما هو تقرير حقيقة وشكر جميل وصدق شاعرنا العربي حيث يقول:

ليس الجمال بمئزر

فاعلم وإن رُدّيْت بردا

إن الجمال معادن

ومناقب أورثن مجدا

والإدارة الناجحة لا تعرف ولا تعترف بمن أحتبس في سجن الدنايا أو قعد عن نصرة الحق والفضيلة والذين يعيشون لمبدأ ضخم وغرض نبيل يطوون رغباتهم المادية طيا في سبيل ما يريدون وتنشأ لديهم طموحات عالية شريفة نظيفة تبعدهم عن أشهى ما يريدون ونحن في عصر تظله حضارة مادية جارفة تشغل فيه البعض اللذات العاجلة ولكن الشرفاء يضحون بذلك في سبيل أمر عظيم أمنوا به وسعوا من أجله وهم في كل عصر ومصر نسق آخر من الفكر الغالي و الذوق الرفيع إن الأعمال والوظائف والقيادات بوجه أخص تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات يحتاج صاحبها إلى زاد ضخم فخم من التجارب والفطنة والإدراك والموهبة والمعرفة والتذوق والتفوق في واقع الحياة العملي والذين تفوقوا بأعمالهم لم ينالوا ذلك مصادقة ولا بالأمر الهين إن دراسة فكر مثل هؤلاء وطرحه ونشره بين الناس في غاية الأهمية ليأخذوا الأسوة والقدوة منهم فهم ثمرة في بل غرة جبين الزمن هذا ولقد سعدت كثيراً لما علمت أنه شرع في آخر حياته في دراسة وتفسير القرآن الكريم لكنني أقول: إن هذه الفكرة عند بعض علمائنا قديماً وحديثاً تأتي متأخرة فالبعض منهم بدأ بالقرآن ولم يكمله يضاف إلى ذلك عامل السن والضعف وكثرة المشاغل حتى يروى عن بعضهم أنه تمنى أن يكون اشتغل بذلك مبكراً كما أقول أيضاً إن مثل هؤلاء الأدباء الكبار وفرسان الكلمة قد يأتون بجديد في تفسير أي القرآن بحسهم المرهف وذوقهم الرفيع وقد رأينا أدباء وعلماء في اللغة خاصة أبدعوا وأمتعوا وأتوا بما لم تستطعه الأوائل فالذائقة القوية ومعرفة أسرار اللغة من أهم ما يعين المفسر على الإتيان بالجديد والمفيد فهو بتأمله وتدبره وحسه وسابقته اللغوية والدلالية أقدر من غيره على الفهم والاستيعاب ويروي عن بعض كبار الأدباء أنه لما أدركه الوهن والضعف في آخر أيامه بعد ذهاب وإياب في هذه الدنيا كان يستلقي على أريكته كثيراً ويسمع القرآن طويلاً متأملاً ومتدبراً يستلهم المعاني والمرامي والمقاصد العديدة والفريدة للكتاب العزيز رحم الله أديبنا الكريم وشاعرنا المبدع وكاتبنا الممتع وختم الله لنا وله بخاتمة السعادة وهنيئاً له حياً وميتاً هذا الحب وهذا الثناء وهذا بحول الله عاجل بشرى المسلم الذي نذر حياته وجهده ووقته لخدمة أمته وأعطى من نفسه المثل والدليل في الحزم والعزم والعفة والأمانة والتوجه الصادق النبيل.

إشارة:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

لا يذهب العرف بين الله والناس

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد